بث تجريبي

إلهامي المليجي يكتب: جمال حمدان.. نبوءات الجغرافيا ورجل سبق زمنه

في السابع عشر من أبريل عام 1993، ترجل بصمت رجلٌ كان في صمته ضجيج فكر، وفي عزلته شرف لم يُدركه كثيرون. رحل الدكتور جمال حمدان، المفكر والجغرافي الموسوعي، تاركًا خلفه تراثًا معرفيًا لا يشبه غيره، ونظرة تحليلية ثاقبة بدت في كثير من مواضعها وكأنها نبوءات مكتوبة بحبر البصيرة لا الحبر الأسود.

كان جمال حمدان مشروعًا قائمًا بذاته، لم ينتمِ إلى حزب، ولا زاحم على منصب، ولا سعَ إلى شهرة. عاش في شقة صغيرة، وانكبّ على الكتب والخرائط، يقرأ جغرافيا الأرض، لا ليصفها، بل ليكشف قوانينها الخفية ويعيد ترتيب وعينا بأنفسنا وموقعنا ودورنا.

عبقرية المكان.. وقدر مصر

في عمله المرجعي الخالد "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، لم يكن حمدان يكتب جغرافيا تقليدية، بل كان يحفر في طبقات التاريخ، والاجتماع، والهوية، والسياسة. رأى في مصر مركزًا لا هامشًا، وكتب أن مصر ليست مجرد بقعة جغرافية، بل معجزة مكان، وأن جغرافيتها صنعت شخصيتها، كما صنع نهر النيل حضارتها.
ورأى أن الخلل في فهم الذات المصرية يبدأ حين نفصلها عن محيطها العربي والإفريقي، أو حين نُختزل في دور وظيفي مرسوم من الخارج. فمصر عنده ليست دولة عادية، بل الإقليم القاعدة، كما أسماها: منطلق الحضارة وركيزة العالم العربي.

إسرائيل.. كيان لا جغرافيا له

كان جمال حمدان من أوائل المفكرين الذين قرأوا إسرائيل بوصفها مشروعًا استعماريًا هشًا، بلا عمق جغرافي، ولا تجذر تاريخي. كتب في السبعينات أن: "إسرائيل جسم غريب بلا جذور، لا مستقبل لها إلا كجيتو مسلح، وأن سقوطها مسألة وقت، لا أكثر".

تنبأ بأن القوة العسكرية لا تكفي لمنحها شرعية، وبأن صراعها مع العرب صراع وجود لا حدود، وهو ما ثبت اليوم، بعد أكثر من نصف قرن، أن رؤيته كانت أصدق من كل تحليلات البنتاغون.

عزلته النبيلة.. وفكره الذي لم ينطفئ

اختار جمال حمدان العزلة عن دوائر السلطة، ورفض التكريم من أنظمة لم يؤمن بشرعيتها. عاش في ظل الأضواء لا في وهجها، وكان يرى أن الكتابة رسالة، لا مهنة. لم يسعَ إلى كاميرات أو منابر، بل إلى اللحظة التي يتقاطع فيها العقل مع الضمير.
ولعل هذا ما جعله أكثر حضورًا بعد غيابه. ففي زمن الارتباك والتفكك، تبدو أفكاره أكثر راهنية من كثير مما يُقال اليوم. رأى أن معركتنا الحقيقية ليست فقط مع الاستعمار الخارجي، بل مع التخلف الداخلي والاستبداد المزمن وفقدان البوصلة الحضارية.

في ذكراه.. ماذا بقي من جمال حمدان؟

في ذكرى رحيله الثانية والثلاثين، تبدو الحاجة ماسّة لاستعادة جمال حمدان لا كمجرد مؤلف بارع، بل كمفكر نقدي عميق، امتلك شجاعة الرؤية وجرأة الصدق، وكتب عن الهوية والعدالة والمصير والمقاومة بلغة عالية لا تخضع للمساومة ولا للابتذال.

... نقلاً عن بوابة فيتو المصرية

قد يهمك