مع تزايد التحولات السياسية والعسكرية التي تشهدها سوريا بعد سقوط نظام "الأسد"، تُعد محافظة درعا، وخاصة ريفها الشرقي، مسرحًا لتقاطع مصالح قوى متعددة. محاولة اغتيال القيادي في جهاز الأمن العام، "محمد السخني" المعروف بـ "أبو معاوية"، تُبرز التوترات المتصاعدة في المنطقة. فقد نجا "السخني" من محاولة اغتيال بعبوة ناسفة استهدفت سيارته في ريف درعا الشرقي، مما يعكس تصاعد الصراع بين الفصائل المسلحة، خاصة بعد حل اللواء الثامن.
تمثل درعا تحديًا كبيرًا للحكومة الجديدة في سوريا، حيث تتقاطع فيها مصالح قوى متعددة. محاولة اغتيال "السخني" تُبرز التحديات الأمنية التي تواجهها المنطقة، وتُشير إلى الحاجة إلى استراتيجية شاملة لإعادة الاستقرار إلى الجنوب السوري. حيث يؤكد ذلك الحادث أن الجنوب السوري – وتحديدًا محافظة درعا – ما يزال في قلب التوترات السياسية والأمنية، رغم التغييرات التي طرأت على المشهد السوري منذ إسقاط النظام السابق.
ويهدف هذا التحليل إلى تقديم قراءة تحليلية لأهم الرسائل والدلالات خلف محاولة اغتيال "السخني" بعد حل اللواء الثامن، ودراسة ملامح سوريا ما بعد "الأسد" خاصًة في ظل تزايد التعقيدات في الأزمة السورية وبالتحديد في الجنوب السوري.
ضبط النفوذ والتوازنات:
المشهد الأمني في درعا، كما تبرزه هذه الحادثة، يعاني من فقدان "مرجعية ضابطة" يُمكن الركون إليها من جميع الأطراف، وهو ما يخلق فراغًا قد يُملأ ليس فقط بتعدد مصادر القوة، بل أيضًا بانبعاث كيانات محلية أشبه بـ"الإقطاعيات المسلحة"، التي ترى في غياب السلطة المركزية فرصة لإعادة التموقع. في هذا السياق، تصبح عمليات الاغتيال نوعًا من إعادة رسم الخرائط بالقوة، حيث يُقصى من يرفض الاندماج في المنظومة الجديدة، ويُثبت وجود من يتقن التكيّف مع منطق المرحلة.
إنّ ما يزيد من خطورة الوضع هو التباين في أولويات الفاعلين الإقليميين، فبينما تسعى الأردن إلى الحفاظ على بيئة حدودية مستقرة، يهم إسرائيل في المقابل ضمان عدم بروز أي حضور عسكري معادٍ على مقربة من خطوطها الحمراء، في حين تنشغل روسيا بالحفاظ على ما تبقى من نفوذها الرمزي بعد تراجع دعمها المباشر، مما يجعل درعا عرضة لتجاذبات غير متناسقة تهدد بتفجير الوضع في أي لحظة.
أمام هذا الواقع، فإن حادثة اغتيال السخني – سواء نجحت أو فشلت – ليست مجرد خبر عابر، بل مؤشر نوعي على مستقبل مشروع "دمشق الجديدة" في الجنوب. فنجاة السخني قد تُكسب الحكومة فرصة لإعادة التموضع أو ردع الخصوم، لكن تكرار هذه العمليات دون رد حاسم سيقوض تدريجيًا قدرتها على فرض تصورها الأمني. من هنا، يصبح مصير المشروع السياسي والأمني الجديد مرهونًا ليس فقط بقدرة حكومة الشرع على الضبط، بل بمدى قبول القوى الفاعلة – محليًا وإقليميًا – لهذا المشروع من الأساس.
وتعكس محاولة اغتيال السخني اختبارات قاسية تواجهها السلطة الناشئة في دمشق. فهي ليست مجرد حادثة أمنية، بل فصل افتتاحي في معركة النفوذ الكبرى في الجنوب السوري، معركة تُرسم فيها حدود الشرعية الجديدة، ويُعاد فيها تعريف من يملك الحق في "احتكار العنف" ومن يُسمح له بالوجود السياسي والأمني في سوريا ما بعد "الأسد".
كل ذلك يجعل من حادثة السخني، نموذجًا لما يمكن تسميته بـ"الرسائل الأمنية المركّبة" التي تهدف إلى تقويض مشروع إعادة الهيكلة الذي تقوده دمشق الجديدة، وتكشف في الوقت نفسه عن أحد أبرز المعضلات البنيوية في هذا المشروع: غياب التفاهمات المجتمعية والسياسية التي تؤسس لشرعية مقبولة محليًا، تحل محل الشرعية المفروضة أمنيًا أو المفروضة عبر القوة. فحالة الرفض المضمَر – أو المعلَن أحيانًا – من قبل فاعلين محليين لهذا النموذج الجديد من الحكم، تنبع من إدراكهم أن أي إعادة تموضع لا تراعي خصوصيات الجنوب السوري، بما فيه من تداخلات عشائرية وخبرات قتالية وتوازنات إقليمية، ستكون محفوفة بالمخاطر وقصيرة الأجل.
بناءً على ما سبق، يمكن القول إن محاولة اغتيال السخني لم تكن فقط إنذارًا أمنيًا، بل إشارة سياسية واضحة بأن الجنوب السوري لم يُطوَ بعد، وأن من يرغب في ضبطه عليه أن يقرأ تعقيداته بعمق، ويتفاعل مع مكوناته على أسس شراكة، لا على قاعدة الحسم أو الإقصاء.
كما أن حل اللواء الثامن يُمكن أيضًا قراءته كفرصة لإعادة تشكيل المشهد الأمني وفق مقاربة مركزية حديثة تسعى الحكومة الجديدة لفرضها، بما يتلاءم مع رؤيتها للدولة ما بعد الأسد. فإعادة ضبط الأجهزة الأمنية في الجنوب دون وسطاء، وإدماج بعض المقاتلين السابقين في تشكيلات أكثر انضباطاً وولاءً للقيادة الجديدة، تُعد خطوات على طريق "المركزية الصلبة" التي يُروّج لها الجولاني منذ سيطرته على دمشق. غير أن هذه العملية لا تزال في بدايتها، وتُواجه تحديات حقيقية تتعلق بالشرعية المحلية، وبقدرة القيادة الجديدة على احتواء التناقضات العشائرية والتاريخية التي لطالما ميّزت بنية درعا.
الخطير في الأمر أن هذا الفراغ الانتقالي قد لا يطول فحسب، بل قد يتحوّل إلى فجوة تُستغل من أطراف خارجية، مثل إسرائيل التي تراقب تحرّكات الجنوب بقلق متزايد، أو الأردن التي تخشى من انزلاق الأوضاع الأمنية على حدودها الشمالية. كذلك، فإن بعض القوى الإقليمية قد تحاول "ملء الفراغ" من خلال تمويل مجموعات محلية صغيرة، لضمان استمرار النفوذ أو منع توسّع الحكومة الجديدة جنوبًا.
التحولات الأمنية:
تمثل حادثة السخني في محافظة حمص منعطفًا كاشفًا عن عمق التحولات الأمنية التي يشهدها الجنوب السوري، إذ لم تبقَ حدود الحدث ضمن الجغرافيا البدوية الوسطى، بل تدافعت تأثيراته في اتجاهات عدّة أبرزها الجنوب، حيث تتداخل الأطراف المحلية والدولية والإقليمية في مشهد أمني معقّد. فقد كشفت ردود الفعل الأمنية التي أعقبت الحادثة عن انخراط أجهزة النظام السوري في إعادة ترتيب خرائط النفوذ الأمني، بالتزامن مع تحركات مباشرة من قبل ميليشيات مدعومة إيرانيًا في درعا والسويداء، بالإضافة إلى نشاط متزايد لعناصر حزب الله، ومحاولات روسية لضبط التوازنات عبر إعادة هيكلة "اللواء الثامن" ومحاولة تحجيم مجموعات مسلحة مستقلة.
ويلاحظ أن التعامل الأمني بعد الحادثة أظهر سمات جديدة في آليات السيطرة، من أبرزها:
ومن جهة أخرى، برزت تحولات في خطاب الفصائل المحلية، حيث بدا واضحًا أن حادثة "السخني" منحت هذه الفصائل مبررًا إضافيًا لتشديد خطابها المعادي للنظام، وتكثيف حملاتها ضد ما تسميه "الاختراق الأمني الإيراني" للجنوب، لا سيما في مدينة درعا وريف السويداء الشرقي.
سعت إيران إلى تعميق وجودها العسكري في المنطقة من خلال تعزيز حضور الميليشيات المدعومة منها، مثل كتائب الرضوان، ولواء فاطميون، على خطوط التماس مع الفصائل المحلية، خصوصًا في المناطق الحساسة مثل درعا والسويداء. هذا التحرك كان يهدف إلى تحويل هذه المناطق إلى ساحات نفوذ ثابتة تديرها إيران من خلال حلفائها المحليين، ما يعكس نهجًا طويل الأمد لإحداث تغيير ديموغرافي واستراتيجي في المنطقة لصالحها.
في الوقت نفسه، كانت روسيا تحاول أن تمسك بزمام الأمور عبر محاولة إعادة ترتيب الأولويات داخل القوات المحلية مثل "اللواء الثامن" التابع لها، وهي خطوة تهدف إلى تقليص نفوذ المجموعات الموالية لإيران، وتوثيق علاقتها بالقوى المسلحة المحسوبة عليها. روسيا تسعى من خلال هذا التحرك إلى الحفاظ على هيمنتها في إطار الاتفاقات الأمنية والمناطق التي تديرها في الجنوب، حيث تأخذ مسافة حذر من أي تصعيد يضر بوجودها الاستراتيجي.
بينما تسعى تركيا إلى الحفاظ على استقرار نسبي في درعا من خلال دعم حكومة الجولاني، التي تعتبر حليفا استراتيجيا لها تركيا قد تستخدم نفوذها لتنسيق اتفاقات محلية بين الحكومة الجديدة والفصائل المحلية، مما يضمن بقاء درعا تحت سيطرة حلفائها دون تصعيد كبير قد يؤثر على مصالحها في الشمال السوري.
أما على المستوى الداخلي في الجنوب السوري، فقد أظهرت الحادثة أن الفصائل المحلية بدأت تجد مبررًا قويًا للتمسك بخطاب معارض أكثر تشددًا، خاصة في درعا والسويداء، حيث ازدادت الحملات الإعلامية المناهضة لنفوذ إيران. هذه الفصائل بدأت في تنظيم نفسها بشكل أكثر وضوحًا، متخذة من الحادثة نقطة انطلاق لتحفيز عمليات الاحتجاج والتصعيد ضد ما يصفونه بـ"الاحتلال الإيراني". يمكن تفسير هذا التحرك على أنه رد فعل على تحركات إيران والنظام السوري في هذه المناطق، ومحاولة للضغط على القوى المحلية للانخراط بشكل أكبر في مواجهة الاحتلال الأجنبي.
مستقبل درعا:
منذ سنوات، تحوّلت محافظة درعا إلى مسرح مفتوح لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، لكن هذا الدور بات أكثر وضوحاً وحساسية بعد إسقاط النظام السابق وصعود حكومة الجولاني إلى سدة الحكم في دمشق. فدرعا، التي تقع على تماس مباشر مع الأردن من الجنوب، وإسرائيل من الغرب، لطالما شكّلت نقطة ضغط في معادلات الأمن الإقليمي، وها هي اليوم تُعيد تثبيت موقعها كمحور في قلب التوازنات الجديدة، التي لم تُحسم بعد لا على مستوى الداخل السوري، ولا على مستوى الأطراف الإقليمية والدولية المتداخلة في الملف السوري.
وتعد محاولة اغتيال "محمد السخني" جزءًا من مخططات مستمرة ضمن التوترات السياسية والأمنية في الجنوب السوري، وهي تمثل لحظة فاصلة تكشف عن التحديات الكبرى التي تواجهها الحكومة السورية الانتقالية في مرحلة ما بعد "الأسد"، وخصوصًا في مناطق مثل درعا والسويداء التي تتداخل فيها المصالح الإقليمية والمحلية بشكل معقد. إن تحليل هذا الحادث والتفاعلات التي أعقبته يتيح فهمًا أعمق للواقع الراهن في الجنوب السوري، ويفتح الباب للتفكير في التحولات المستقبلية التي قد يشهدها هذا الجزء الحيوي من البلاد.
"السخني" لم يكن مجرد اسم في الهيكل التنظيمي لجهاز أمني محلي، بل يُعد شخصية لها وزنها داخل النسيج الأمني والاجتماعي في ريف درعا، وخاصة بين من تبقّى من أنصار اللواء الثامن، الذي تأسس في الأصل تحت رعاية روسية عقب اتفاق التسوية عام 2018. ومن هنا، فإن استهدافه يعكس استمرار رفض بعض الأطراف – سواء كانت فصائل محلية معارضة أو جهات استخباراتية إقليمية – لمسار تفكيك البنى العسكرية التي نشأت في مرحلة ما بعد الثورة، واستبدالها ببنية أمنية مرتبطة بالحكومة الجديدة التي تُعد أكثر مركزية وتوحّدًا من الحكومات السابقة.
فمنذ بداية النزاع السوري، تميز الجنوب السوري بتعدد الفاعلين العسكريين والسياسيين. وفي فترة ما بعد سقوط نظام "الأسد"، نجد أن هذه التعددية قد ازدادت تعقيدًا. فبينما كانت الحكومة السابقة تحكم قبضتها على البلاد، يواجه النظام الجديد في دمشق تحديات أكبر تتعلق بغياب مرجعية ضابطة تحكم العلاقة بين الأطراف المختلفة. تعتبر حادثة محاولة اغتيال "السخني" مؤشرًا قويًا على هذه الاضطرابات الأمنية التي تشهدها المنطقة.
إن غياب سلطة مركزية تفرض سيطرتها على الجنوب يعزز وجود العديد من "الإقطاعيات المسلحة"، حيث يحاول كل طرف أن يفرض سيطرته على الأرض عبر القوة، بينما يغيب التوافق المحلي الذي قد يساهم في إعادة بناء شرعية مقبولة. في هذا السياق، تُعد هذه المحاولات الأمنية بمثابة "إعادة رسم الخرائط" لتوزيع القوى في المنطقة، حيث تعمل الفصائل المسلحة، سواء كانت موالية للنظام أو مستقلة، على تحدي محاولات الهيمنة الخارجية، خاصة من قبل إيران وروسيا.
بالتالي، يبقى مستقبل درعا بعد حل اللواء الثامن لا يرتبط فقط بقدرة الجولاني على فرض السلطة، بل بقدرته على إعادة إنتاج نموذج أمني-إداري مرن، يوازن بين الحسم والسياسة، ويستجيب لتطلعات مجتمع محلي عاش أكثر من عقد من الزمن بين الثورة والتسويات والتناقضات. هو اختبار معقّد، يضع الجنوب السوري أمام خيارين، إما السير في طريق بناء الاستقرار من خلال شراكات مرنة تحترم الخصوصية المحلية، أو الانزلاق مجددًا إلى دوامة الاضطرابات والعنف المتنقّل.
ونجاح المشروع الأمني والسياسي في الجنوب السوري مرهون ليس فقط بقوة النظام العسكري، بل بقدرة الحكومة على بناء تفاهمات محلية شاملة. فالتعامل مع الواقع المحلي في درعا والسويداء يتطلب المزيد من التفاوض والتفاهم مع القوى المحلية بما فيها العشائر والفصائل المسلحة. لن يكون التغيير المستدام ممكنًا إلا إذا تم إشراك هذه القوى في العملية السياسية بشكل فعّال، وإعطائهم دورًا حقيقيًا في تحديد مصيرهم.
إضافة إلى ذلك، فإن الحلول الأمنية التي تعتمد على القوة وحدها لن تجلب الاستقرار في الأمد الطويل. إذا استمرت محاولات الهيمنة الأمنية الإقصائية، فإنها ستؤدي إلى المزيد من تصعيد العنف وعودة المظالم الاجتماعية التي قد تطال كل الأطراف. من هنا، يصبح من الضروري البحث عن حلول شاملة تتضمن إعادة بناء الثقة بين النظام والمجتمع المحلي، والتأكيد على ضرورة تكامل العوامل السياسية والاجتماعية مع الأمن العسكري.
ختامًا، يمكن القول إن حادثة محاولة اغتيال "السخني" هي بمثابة جرس إنذار ينبه إلى عمق التحديات التي تواجه الحكومة السورية في تحقيق استقرار دائم في الجنوب. التوترات الأمنية المستمرة، في ظل التدخلات الخارجية والصراعات المحلية، تُظهر أن الطريق إلى بناء سوريا ما بعد "الأسد" لن يكون معبدًا بالحلول السهلة. فالتوازنات الإقليمية والمحلية ستظل تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مستقبل هذا الجزء الحيوي من البلاد، وهو ما يتطلب من الحكومة السورية أن تكون على استعداد للتعامل مع تعقيداته بمرونة ورؤية استراتيجية شاملة.
ومستقبل درعا يعتمد بشكل كبير على قدرة الحكومة الجديدة على إدارة التوازنات المحلية والإقليمية، مع مدى استعداد الفصائل المحلية للانخراط في تسويات سياسية. الدور التركي يظل حاسمًا في توجيه هذه السيناريوهات، سواء من خلال دعم الحكومة الجديدة أو من خلال التأثير على الفصائل المحلية.
منبر الرأي
من زوايا العالم
فضاءات الفكر
فضاءات الفكر
فضاءات الفكر