نقلاً عن مجلة الأمة الديمقراطية
في الرابع من أبريل من كل عام، يستعيد الشعب الكردي ومعه كل مناصري قضايا الحرية والكرامة ذكرى تأسيس وحدات حماية المرأة؛ تلك التجربة الفريدة التي لم تقتصر على أن تكون مجرّد تشكيل عسكري، بل غدت عنوانًا لثورة اجتماعية وفكرية غير مسبوقة في منطقتنا، وثمرة نضال طويل من أجل تحرير المرأة والمجتمع معًا من قيود الاستبداد والهيمنة الذكورية.
لقد شكّلت المرأة الكردية، عبر تاريخها النضالي، نموذجًا استثنائيًا للمرأة المقاومة التي كسرت قيود التقاليد البالية وخرجت من دائرة الضحية إلى موقع الفاعل، ليس فقط في ساحات القتال، بل في الدفاع عن قيم العدالة والحرية والعيش المشترك. وجاء تأسيس وحدات حماية المرأة ليجسّد هذا التحوّل الجذري؛ حيث تحوّلت النساء إلى قوة منظّمة ومسلّحة تدافع عن مجتمعها وحقها في الحياة الكريمة، في مواجهة واحدة من أكثر القوى ظلامية وهمجية في التاريخ المعاصر، المتمثلة في تنظيم "داعش".
لم تكن تجربة وحدات حماية المرأة حدثًا عابرًا فرضته ضرورات الحرب فحسب، بل كانت إعلانًا عمليًا عن انبثاق مشروع تحرّري شامل، يؤمن بأن حرية المرأة شرطٌ أساسيّ لتحرّر المجتمع بأسره، وأن الدفاع الذاتي ليس مجرّد حمل للسلاح، بل فعلٌ اجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ بامتياز، يهدف إلى اجتثاث جذور العنف والتطرّف والتمييز.
في السنوات التي اجتاحت فيها قوى الإرهاب مناطق واسعة من سوريا والعراق، وقوّضت المجتمعات وأباحت كل المحرّمات، وقفت المرأة الكردية سدًّا منيعًا في وجه هذه الهجمة البربرية، وقدّمت التضحيات الجسام من أجل تحرير الإنسان والأرض والكرامة. ومن رحم هذه التجربة، خرجت عشرات الحكايات لنساء قاتلن واستشهدن من أجل أن يحيا الآخرون بكرامة.
إن هذه الدراسة تأتي في مناسبة هذه الذكرى، لا لتوثيق تجربة قتالية فحسب، بل لاستعراض أهمية الدور الذي لعبته المرأة الكردية في حماية مجتمعها من السقوط في براثن الإرهاب، ولتحليل الأثر العميق الذي تركته وحدات حماية المرأة على المستويين الاجتماعي والسياسي، ولتسليط الضوء على التحديات التي تواجه استمرار هذه التجربة الاستثنائية، والآفاق التي يمكن أن تفتحها أمام المجتمعات التي تسعى إلى التحرّر والعدالة والمساواة.
أولًا: الخلفية التاريخية والاجتماعية لدور المرأة الكردية
لم تكن تجربة المرأة الكردية في ساحات القتال وفي طليعة المقاومة حدثًا مستجدًّا أو ظاهرة طارئة فرضتها ظروف الحرب فحسب؛ بل كانت امتدادًا طبيعيًا لمسيرة طويلة من الكفاح الصامت والمتراكم ضد القهر المزدوج الذي عانته المرأة الكردية على مدى عقود، قهر الاحتلال والاستبداد القومي من جهة، والقهر الاجتماعي الأبوي من جهة أخرى.
في المجتمع الكردي التقليدي، كما في معظم المجتمعات الشرق أوسطية، كانت المرأة محاصرة بقيود الأعراف والتقاليد التي همّشت دورها واقتصرت على اختزالها في أدوار محدّدة داخل الأسرة. إلا أن خصوصية الاضطهاد القومي الذي تعرّض له الكرد جعلت المرأة تعيش نوعًا آخر من التهميش المركّب، حيث كانت تُنكر عليها حقوقها كامرأة وككردية في آنٍ معًا.
ومع بروز الحركة التحررية الكردية منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت المرأة الكردية تشقّ طريقها نحو الفعل السياسي والاجتماعي، فلم تكن مجرّد متلقّية للقرارات أو تابعة للرجل في ميدان النضال، بل تحوّلت إلى فاعل رئيسي، مشارِكة في المسيرات والمظاهرات، ومقاوِمة في الجبال، ومعتقلة في السجون.
وقد لعبت الأفكار التقدمية التي حملتها الحركات التحرّرية الكردية، وعلى رأسها الفكر الذي طوّره القائد عبد الله أوجلان، دورًا حاسمًا في الدفع بالمرأة إلى قلب الحراك السياسي والاجتماعي. إذ قدّم هذا الفكر رؤية جديدة للعلاقة بين المرأة والحرية، تقوم على أن تحرّر المجتمع الكردي لا يمكن أن يتحقّق دون تحرّر المرأة، وأن الاستبداد السياسي والاجتماعي ينبع أولًا من استعباد المرأة وإقصائها.
مع انطلاق الأحداث في سوريا عام 2011، وظهور الفرصة التاريخية أمام الكرد لإدارة مناطقهم، أصبحت هذه الرؤية واقعًا ملموسًا. فلم تكتفِ المرأة الكردية بالمشاركة في العمل السياسي أو الاجتماعي، بل بدأت تأخذ موقع القيادة وتؤسّس لمرحلة جديدة عنوانها "الدفاع الذاتي والمجتمع الديمقراطي"، وهي المرحلة التي مهّدت لاحقًا لتأسيس وحدات حماية المرأة.
لقد كان المشهد في تلك المرحلة كاشفًا لحقيقة التحوّل العميق الذي حدث داخل المجتمع الكردي: المرأة التي كانت تُختزل قبل عقود في صورة الأم أو الزوجة الصامتة، باتت اليوم تقف في طليعة المجتمع، تحمل السلاح وتُدير المؤسسات وتشارك في رسم مستقبل مجتمعها، ليس بوصفها عنصرًا تابعًا، بل باعتبارها شريكًا كاملًا في النضال والتحرّر.
وهكذا، فإن تأسيس وحدات حماية المرأة لم يكن قرارًا عسكريًا أو تنظيميًا فحسب، بل كان تتويجًا لمسار طويل من الوعي والتحدّي والمقاومة الاجتماعية، وتجسيدًا حيًّا لرؤية ترى في المرأة صانعة الحياة وحامية المجتمع.
ثانيًا: التأسيس والرؤية الفكرية لوحدات حماية المرأة
لم تكن ولادة وحدات حماية المرأة مجرّد استجابة عسكرية لمتطلّبات الحرب التي فرضتها السنوات الأولى من الأزمة السورية، بل جاءت انعكاسًا لرؤية فكرية عميقة وتجربة نضالية طويلة، عبّدت الطريق أمام المرأة الكردية لكي تخرج من أطرها التقليدية إلى ساحة الفعل المباشر في حماية مجتمعها والدفاع عن قضاياه.
في عام 2013، وسط الفوضى التي عمّت سوريا بعد انهيار أجهزة الدولة المركزية في مناطق الشمال، وإثر تعرّض المناطق الكردية لهجمات متتالية من الجماعات المسلحة، برزت الحاجة الملحّة لتأسيس قوة منظّمة تتولى الدفاع الذاتي عن هذه المناطق. وفي هذا السياق، أُعلنت رسميًا ولادة وحدات حماية المرأة، كقوة عسكرية مستقلة ضمن هيكلية قوات الحماية الذاتية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
لكنّ ما ميّز تأسيس هذه الوحدات لم يكن البنية العسكرية فقط، بل الخلفية الفكرية التي قامت عليها. فقد استند مشروع وحدات حماية المرأة إلى رؤية تنطلق من أن التحرّر الحقيقي يبدأ بتحرير المرأة، وأن المرأة ليست فقط ضحية الحروب، بل يمكن أن تكون الحصن الذي يحمي المجتمع من الانهيار والظلامية.
استلهمت هذه الرؤية أفكار "ثورة المرأة" التي شكّلت أحد أعمدة فكر عبد الله أوجلان، الذي اعتبر أن كل أشكال العبودية والاستغلال تبدأ من استعباد المرأة. ومن هنا، لم تُؤسَّس وحدات حماية المرأة لتكون تشكيلًا نسويًا يرفع السلاح فحسب، بل لتكون مشروعًا تحرّريًا متكاملًا، يهدف إلى كسر الحلقة التاريخية من الاستبداد الذكوري والاحتلال القومي، ويُعيد للمرأة موقعها الطبيعي كقائدة وفاعلة في مجتمعها.
لقد اختارت المئات من الفتيات الكرديات، ومعهن نساء من مختلف المكوّنات الإثنية والدينية في مناطق الإدارة الذاتية، الانضمام إلى هذه الوحدات، مدفوعات ليس فقط بالرغبة في الدفاع عن الأرض، بل أيضًا بإيمان عميق بأن حمل السلاح كان ضرورة وجودية لحماية الحياة ذاتها من آلة العنف والتطرّف التي مثّلها صعود التنظيمات الإرهابية.
وبينما كانت التنظيمات الظلامية، وعلى رأسها تنظيم "داعش"، تستخدم المرأة كغنيمة حرب، وتختزلها في سلعة للمتاجرة والاستعباد، وقفت وحدات حماية المرأة نقيضًا لهذا المشروع؛ فقدّمت للعالم نموذجًا مغايرًا لامرأة مقاتلة، حرّة، فاعلة، ومصمّمة على الدفاع عن كرامتها وكرامة مجتمعها.
ومنذ لحظة التأسيس، لم تقتصر وحدات حماية المرأة على النشاط العسكري فحسب، بل أطلقت أيضًا برامج فكرية وتثقيفية لتعزيز وعي المقاتلات بحقوقهن ومكانتهن في المجتمع، ولترسيخ قناعة راسخة بأن النصر العسكري لا يكتمل إلا بانتصار المرأة على القيود الاجتماعية التي كبّلتها لعقود.
لقد شكّل تأسيس هذه الوحدات، إذًا، لحظة فاصلة في تاريخ المرأة الكردية والمنطقة برمّتها، لأنه أعاد صياغة العلاقة بين المرأة والمجتمع، وبين المقاومة والهوية، على قاعدة التحرّر الكامل من كل أشكال التبعية والظلم.
ثالثًا: وحدات حماية المرأة في مواجهة تنظيم "داعش"
حين اجتاحت جحافل تنظيم "داعش" مناطق شاسعة من سوريا والعراق، ناشرة الرعب والدمار، ومحوّلة النساء إلى سبايا وأسيرات في سوق النخاسة، لم تكن المرأة الكردية لتقف موقف المتفرّج أو الضحية. بل إن هذه اللحظة المفصلية في تاريخ المنطقة شكّلت لحظة اختبار قاسية لرؤية وحدات حماية المرأة وللدور الذي نذرت مقاتلاتها أنفسهن من أجله: حماية الإنسان والكرامة والحرية.
لقد مثّل تنظيم "داعش" تجسيدًا لأبشع أشكال العنف الذكوري الممنهج؛ فقد استخدم النساء سلاحًا في الحرب، سواء من خلال الاستعباد الجنسي، أو من خلال فرض قوانين متوحّشة تنزع عن المرأة إنسانيتها. وفي مواجهة هذا المشروع الظلامي، لم تكن البنادق وحدها هي ما حملته مقاتلات وحدات حماية المرأة، بل حملن أيضًا وعيًا تحرّريًا عميقًا، وإيمانًا بأن هزيمة هذا التنظيم ليست مسألة عسكرية فحسب، بل معركة وجودية بين ثقافة الحياة وثقافة العبودية.
وكانت معركة كوباني التي اندلعت في خريف عام 2014 وتواصلت حتى مطلع عام 2015، المحطة الأبرز التي لفتت أنظار العالم إلى هذه التجربة. ففي تلك المدينة الصغيرة الواقعة على الحدود السورية التركية، صمدت وحدات حماية المرأة إلى جانب قوات الحماية الذاتية أمام حصار مطبق من تنظيم "داعش"، الذي سخّر آلاف المقاتلين والعتاد الثقيل لاجتياح المدينة.
تحوّلت معركة كوباني إلى رمز عالمي لمقاومة المرأة الكردية، ليس فقط لأن المقاتلات قدّمن أداءً قتاليًا فذًّا مكّنهن من كسر الحصار وطرد قوات "داعش"، بل لأن صور المقاتلات الشابات وهنّ يقاتلن في الصفوف الأمامية دحضت الصورة النمطية للمرأة في مجتمعات الحرب.
لكنّ كوباني لم تكن المعركة الوحيدة؛ فقد شاركت وحدات حماية المرأة في تحرير مدينة منبج، ثم في حملة تحرير الرقة، التي كانت تُعدّ العاصمة الفعلية لتنظيم "داعش"، ولاحقًا في المعارك الكبرى التي انتهت بتحرير آخر جيب للتنظيم في منطقة الباغوز على ضفاف الفرات عام 2019
وفي كل هذه المحطات، دفعت وحدات حماية المرأة أثمانًا باهظة. فقد ارتقى المئات من المقاتلات شهيدات في ميادين القتال، وامتلأت السجلات بأسماء من صرن أيقونات للمقاومة والتضحية، مثل آرين ميركان، التي فجّرت نفسها لتوقف تقدّم قوات "داعش" في كوباني، وزيلان كوباني، التي شكّلت نموذجًا للصلابة والإصرار.
لقد كان الحضور القتالي لوحدات حماية المرأة في مواجهة "داعش" أكثر من مجرّد انخراط عسكري؛ كان إعلانًا واضحًا بأن المرأة قادرة على دحر أقوى التنظيمات الإرهابية، ليس فقط بالسلاح، بل أيضًا بالقيم التي تحملها وبالإيمان العميق بأن تحرير الأرض يبدأ بتحرير الإنسان، وعلى رأسه المرأة.
كما كان لهذا الدور أثرٌ استراتيجي في إعادة رسم خريطة الصراع في سوريا. إذ لولا بسالة مقاتلات وحدات حماية المرأة، لما أمكن صدّ زحف "داعش" ومنعه من التمدّد نحو مناطق أخرى، ولما تمكّنت المجتمعات المحلية من استعادة أنفاسها وبناء مؤسساتها الذاتية بعيدًا عن سلطة التطرف والعنف.
رابعًا: أثر تجربة وحدات حماية المرأة على المجتمع الكردي وواقع المرأة
لم تقتصر تجربة وحدات حماية المرأة على الانتصارات العسكرية وتحرير الأرض من براثن الإرهاب، بل تركت أثرًا عميقًا وبعيد المدى على بنية المجتمع الكردي نفسه، وعلى موقع المرأة داخله، بل وامتد تأثيرها إلى ما هو أبعد من حدود الجغرافيا الكردية، ليطال الفكر والممارسة في مجتمعات الشرق الأوسط التي لطالما كبّلت المرأة بأغلال السلطة الذكورية والتقاليد البالية.
لقد شكّلت تجربة وحدات حماية المرأة رافعةً اجتماعيةً وثقافيةً لا تقلّ أهميّة عن دورها العسكري. فقد أسهمت هذه التجربة في كسر الصورة النمطية التي ظلت لعقود ترسم المرأة بوصفها تابعًا للرجل، وعاجزة عن الانخراط في ميادين الفعل والتغيير. وبفعل التضحيات التي قدّمتها المقاتلات، لم يعد من الممكن النظر إلى المرأة الكردية بوصفها الحلقة الأضعف في المجتمع، بل باتت تُرى كحاملة لمشروع تحرّري شامل، وركنٍ أساسيّ في حماية المجتمع وبناء مستقبله.
انعكس هذا التحوّل بشكل مباشر على واقع المرأة في مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؛ حيث جرى العمل على تطوير منظومة اجتماعية وسياسية تقوم على مبدأ المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. فقد تم اعتماد "الرئاسة المشتركة" في كل الهيئات والمؤسسات المدنية والعسكرية، بحيث لا يُتّخذ أي قرار إلا بموافقة كلٍّ من الرجل والمرأة معًا، في سابقة نادرة في المنطقة. كما فُرضت نسبة مخصّصة للنساء في كل المجالس والمؤسسات السياسية، وعُرفت باسم "الكوتا النسائية"، لضمان التمثيل الفعليّ للمرأة في مراكز القرار.
لم يتوقف الأمر عند التمثيل السياسي فحسب، بل تعدّاه إلى إدخال برامج تعليمية وفكرية تهدف إلى تفكيك ذهنية التسلّط الذكوري، وتعزيز قيم الحرية والمساواة منذ مراحل التعليم الأولى. وأُنشئت أيضًا مؤسسات تُعنى بحماية حقوق المرأة ومعالجة قضاياها، مثل مجالس المرأة، ومراكز العدالة الاجتماعية التي تنظر في قضايا العنف الأسري والزواج القسري.
ولعلّ الأثر الأعمق لهذه التجربة يكمن في تغيير قناعة النساء أنفسهن. فالمقاتلة التي خاضت معارك التحرير، أو الأم التي قدّمت شهيدة، لم تعد تقبل بالعودة إلى الهامش أو أن يُحصر دورها داخل جدران البيت. لقد ولّدت تجربة وحدات حماية المرأة شعورًا عارمًا بالقدرة والكفاءة والحق في الحياة الكريمة، وهو شعور انتقل من ساحات المعارك إلى تفاصيل الحياة اليومية، ليصبح رافدًا من روافد التغيير الاجتماعي العميق.
كما انعكست هذه التجربة على مختلف مكوّنات المجتمع في مناطق الإدارة الذاتية، إذ شاركت نساء من العرب والسريان والأرمن والمكوّنات الأخرى في صفوف وحدات حماية المرأة، ووجدن فيها مساحة للنضال المشترك ضد التطرّف والقهر.
لقد أعادت تجربة وحدات حماية المرأة تعريف معنى "الدفاع الذاتي"؛ فلم تعد مجرّد فعل عسكري محدود، بل غدت مشروعًا لتحصين المجتمع بأسره ضد العنف والتطرّف والتمييز، ومثالًا حيًّا على أن تحرّر المرأة هو حجر الأساس لأي تحرّر حقيقي للمجتمع.
خامسًا: الأبعاد الإقليمية والدولية لتجربة وحدات حماية المرأة
لم تبقَ تجربة وحدات حماية المرأة محصورةً في الجغرافيا الكردية أو في حدود مناطق الإدارة الذاتية، بل سرعان ما تجاوزت تأثيراتها المحلية لتثير اهتمامًا إقليميًا ودوليًا واسعًا، كونها مثّلت ظاهرة فريدة في قلب منطقة عرفت تاريخيًا بذكوريتها المفرطة واستبعادها للمرأة من الفضاء العام، فضلًا عن اتسامها بالنزاعات والحروب التي تجعل من النساء أولى ضحاياها.
حين خاضت المقاتلات الكرديات معاركهن البطولية ضد تنظيم "داعش"، كانت عدسات الإعلام العالمي مسلّطة عليهن. وقد تحوّلت صور المقاتلات الشابات، اللواتي وقفن في الصفوف الأمامية لصدّ آلة العنف والإرهاب، إلى أيقونات للمقاومة النسائية في وجه أكثر التنظيمات دموية وتوحّشًا. تناولت وسائل الإعلام الكبرى هذه التجربة بوصفها حدثًا غير مسبوق في المنطقة، وراحت تتحدّث عن "النساء اللواتي هزمن الخلافة"، فيما أصدرت منظمات حقوقية وتقارير دولية توثّق دور وحدات حماية المرأة في تحرير المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيم الإرهابي.
لكنّ هذا الحضور الإعلامي لم يكن دائمًا متوازنًا أو عادلًا. فقد اختزلت بعض القراءات الغربية هذه التجربة في بُعدها الاستعراضي، متجاهلة الجذور الفكرية والاجتماعية التي قامت عليها، ومتناسية المشروع السياسي الديمقراطي الذي تبنّته الإدارة الذاتية، واعتبار وحدات حماية المرأة جزءًا عضويًا منه. وكثيرًا ما تحوّلت هذه التجربة في الإعلام الدولي إلى "قصة بطولية" تصلح للترويج الإعلامي، دون التوقّف عند المعاناة اليومية والتحديات البنيوية التي تواجهها المقاتلات والمجتمع الذي ينتميْن إليه.
إقليميًا، أثارت هذه التجربة قلقًا بالغًا لدى أنظمة وحركات سياسية ترى في تحرّر المرأة خطرًا وجوديًا على بنيتها الذكورية والسلطوية. وكان الاستهداف المباشر لوحدات حماية المرأة من قبل تركيا، التي شنت عمليات عسكرية متكرّرة ضد مناطق الإدارة الذاتية، وعلى رأسها عفرين ورأس العين وتل أبيض، جزءًا من هذا الخوف العميق من أن تتحوّل هذه التجربة إلى نموذج مُلهم للنساء والشعوب الأخرى التي تعاني من الاستبداد.
ولم تقتصر الهجمات على العمليات العسكرية، بل شملت أيضًا عمليات اغتيال ممنهجة طالت عددًا من القيادات النسائية في صفوف وحدات حماية المرأة ومؤسسات الإدارة الذاتية، في محاولة لإسكات الصوت النسوي التحرّري وكسر إرادة المرأة الكردية.
وفي الوقت ذاته، وجد كثير من النساء والناشطات والمنظمات النسوية حول العالم في تجربة وحدات حماية المرأة مصدر إلهام ونموذجًا للتمكين والمقاومة، وقد أُقيمت العديد من الفعاليات والمبادرات الدولية لدعم هذه التجربة والدفاع عنها.
لقد أصبحت وحدات حماية المرأة رمزًا عالميًا ليس فقط للمقاومة العسكرية ضد الإرهاب، بل لمقاومة كل أشكال الهيمنة والتسلّط والتمييز. وبقدر ما كانت هذه التجربة سابقةً في الوعي والتحرّر داخل المجتمع الكردي، فإنها أسهمت أيضًا في إعادة طرح سؤال جوهري أمام العالم: كيف يمكن أن تكون المرأة صانعة للتاريخ، لا ضحية له؟
سادسًا: التحديات الراهنة والمستقبلية أمام تجربة وحدات حماية المرأة
رغم كل ما حقّقته وحدات حماية المرأة من إنجازات عسكرية واجتماعية وثقافية غير مسبوقة، فإن هذه التجربة الاستثنائية لا تزال تواجه سلسلةً من التحديات المعقّدة التي تهدّد مسيرتها وتستهدف جوهر المشروع الذي قامت عليه.
على المستوى العسكري والأمني، ما تزال وحدات حماية المرأة تواجه خطر الاعتداءات المستمرّة من قبل الجيش التركي والفصائل المسلّحة التابعة له، والتي تستهدف مناطق الإدارة الذاتية بصورة دورية. وقد أدّت هذه الاعتداءات إلى تهجير عشرات الآلاف من السكان، وعرقلة جهود بناء مجتمع ديمقراطي متعدّد الأعراق والثقافات، فضلًا عن استهداف مباشر للكوادر القيادية النسائية، سواء عبر الهجمات بالطائرات المسيّرة أو عبر العمليات العسكرية المباشرة.
إلى جانب التهديد الخارجي، هناك أيضًا الخطر الكامن المتمثّل في الخلايا النائمة لتنظيم "داعش"، التي ما تزال تنشط في مناطق متعددة من شمال وشرق سوريا، وتسعى إلى زعزعة الاستقرار الأمني والاجتماعي، مستغلّة هشاشة الوضع السياسي وتقلّبات التحالفات الدولية.
أما التحدّي الأكثر تعقيدًا، فهو التحدّي الاجتماعي والثقافي. فرغم التقدّم الكبير الذي حقّقته المرأة الكردية بفضل وحدات حماية المرأة والمؤسسات النسائية الأخرى، لا تزال بقايا الذهنية الذكورية راسخة في بعض أوساط المجتمع، وتحاول بعض القوى الرجعية إعادة فرض الهيمنة على المرأة والحدّ من مكتسباتها، مستغلّة الأوضاع الاقتصادية المتردّية والصراعات الداخلية.
كما أن الإرهاق الناتج عن سنوات الحرب الطويلة، والظروف المعيشية الصعبة التي تعاني منها مناطق الإدارة الذاتية بسبب الحصار والضغوط الإقليمية والدولية، تُشكّل بيئةً خصبة لعودة بعض الأفكار التقليدية التي تنظر إلى المرأة من منظور دونيّ.
إلى جانب كل ذلك، هناك تحديات سياسية تتعلّق بمستقبل الإدارة الذاتية ككل، وما إذا كانت القوى الإقليمية والدولية ستعترف بهذه الإدارة وبالمشروع الديمقراطي الذي تتبنّاه، وهو مشروع يشكّل فيه تحرّر المرأة حجر الزاوية.
ورغم كل هذه التحديات، فإن التجربة التي راكمتها وحدات حماية المرأة طيلة أكثر من عقد، والتي دفعت ثمنها دمًا وتضحيات جسامًا، تمنحها مناعةً فكرية وروحية تجعلها قادرة على الصمود والاستمرار في الدفاع عن نفسها وعن المجتمع الذي آمنت بأنها حاميته الأساسية.
غير أن هذا الصمود لا يمكن أن يستمرّ بمعزل عن دعمٍ إقليميّ ودوليّ حقيقيّ، يُدرك أن تجربة وحدات حماية المرأة ليست تجربة كردية محليّة فحسب، بل تجربة إنسانية شاملة تحمل في جوهرها مشروعًا لبناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا لكل مكوّناته، وفي مقدّمتها المرأة.
في الختام
لم تكن تجربة وحدات حماية المرأة في شمال وشرق سوريا مجرّد مغامرة عسكرية عابرة في زمن الفوضى والحرب، بل كانت، وما تزال، إعلانًا صارخًا عن ميلاد نموذج جديد للمرأة في منطقتنا؛ المرأة التي لا تقبل أن تكون ضحية الحروب أو رهينة التقاليد البالية، بل تصنع تاريخها بيديها، وتحمل سلاحها دفاعًا عن مجتمعها وكرامتها وحقها في الحياة.
لقد أثبتت المرأة الكردية، عبر تأسيسها لوحدات حماية المرأة، أن تحرّر الشعوب يبدأ من تحرّر المرأة، وأن مقاومة الإرهاب لا تقتصر على المواجهة العسكرية المباشرة، بل تتطلّب أيضًا مقاومة الأفكار الظلامية والذهنية الذكورية التي تُنتج العنف والتطرّف وتؤسّس لدوّامة الاستبداد.
وفي الوقت الذي كان فيه تنظيم "داعش" يسعى إلى تحويل المرأة إلى سلعة في سوق العبودية، وقفت مقاتلات وحدات حماية المرأة ليقولن للعالم أجمع: نحن لسنا غنائم حرب، بل صنّاع الحرية.
تجربة وحدات حماية المرأة هي تجربة كونية بامتياز، لأنها أعادت صياغة مفهوم الدفاع الذاتي باعتباره فعلًا تحرّريًا شاملًا، يتجاوز حدود الجغرافيا واللغة والقومية، ليخاطب كل إنسان ينشد العدل والمساواة والكرامة.
لكن هذه التجربة، رغم ما أنجزته من انتصارات وما راكمته من تضحيات، لا تزال تواجه مخاطر جمّة، من محاولات الاستهداف العسكري إلى الضغوط السياسية والتحديات الاجتماعية التي تسعى لإعادة المرأة إلى الهامش.
ومن هنا، فإن استذكار ذكرى تأسيس وحدات حماية المرأة لا ينبغي أن يكون مجرّد احتفال بالماضي، بل يجب أن يكون وقفةً صادقة أمام الحاضر والمستقبل؛ لحماية هذه التجربة، والدفاع عن مكتسباتها، ومساندة النساء اللواتي لا يحمين مجتمعهن فحسب، بل يحمين قيم الحرية ذاتها في زمنٍ تتكالب فيه قوى الظلام والاستبداد.
إن الدفاع عن وحدات حماية المرأة هو دفاع عن مشروع للإنسانية بأسرها، مشروع يعلن أن زمن عبودية المرأة قد ولّى، وأن زمن الحرية يصنعه أولئك الذين يؤمنون بأن لا مجتمع حرًا دون امرأة حرّة.