بث تجريبي

د. على ثابت صبري يكتب: الثورة الذهنية في الشرق الأوسط .. ثورة البقاء والمواجهة

نقلا عن مجلة الأمة الديمقراطية

تُمثل الثورة الذهنية المعادلة الأكثر أهمية لشعوب ومجتمعات الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين. فقد وقعت الكثير من هذه الشعوب فريسة لأدوات الحداثة الرأسمالية، مما أدى إلى تشويه وعيها بالواقع عمدًا، وجعلها بلا حول ولا قوة في مواجهة المخططات الكبرى التي هددت ومازالت مستقبل المنطقة جمعاء. لذا، سنستعرض للقارئ مدخلاً تاريخيًا لعملية محو الحقيقة، ونستكشف مفهوم الثورة الذهنية وضرورة إحيائها لإعادة توجيه بوصلة شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط نحو مساراتها الطبيعية.

البداية، مع تجذير الحداثة الرأسمالية أسسها في منطقة الشرق الأوسط منذ حوالي 400 عام، حيث حلّت الحضارات الغربية محل حضارات شعوب الشرق. أدى هذا التحول إلى تعزيز الفردية على حساب المجتمعية التشاركية، التي كانت تُعد حجر الأساس لبناء المجتمعات والحضارات في هذه المنطقة.

فقد أثرت الفردية الأنانية سلباً على التركيبة الاجتماعية لشعوب ومجتمعات الشرق الأوسط ، مما مهّد الطريق لتفكك أكبر عقب اتفاق سايكس–بيكو 1916، والذى قسم وأدمج مجتمعات وشعوب المنطقة في شكل الدول القومية، دون مراعاة خصوصية أو تاريخ تلك المجتمعات. في كلمة، دمجت شعوب المنطقة قسراً ليظل الاختلاف والصراع قائم ومستمر، ولعل الواقع السوري مثالاً صارخاً على هذا. مما زاد الطين بلة،إفراز هذه النموذج القومي مشكلات عرقية، إثنية، ودينية، أسفرت عن أزمات عميقة تعاني منها الدول القومية الناشئة حديثاً. 

الاستشراقية ومحاولات  محو الحقيقة

الاستشراقية هي مصطلح يستخدم لوصف الدراسات الغربية حول الثقافات والديانات واللغات الشرقية، خاصةً الإسلام والشرق الأوسط، والتي غالباً ما تكون متحيزة ومشوهة. وقد أثرت على العلاقات بين الغرب والشرق الأوسط في عدة جوانب، بما في ذلك:

- تشكيل صورة نمطية سلبية حول الشرق الأوسط والشعوب الإسلامية.

- رسم السياسات الغربية تجاه الشرق الأوسط، حيث تستخدم هذه الصورة السلبية مبرراً التدخلات العسكرية والسياسية في المنطقة.

- التأثير على الثقافة الغربية حول شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، حيث يُستخدم في الأدب، الفن، والسينما لتمثيل المنطقة بطريقة سلبية ومُشوهة.

- التأثير على الهوية الشرق أوسطية، حيث يُستخدم لتحدي هوية الشعوب الشرقية وثقافتهم.

عند هذا الحد، نجد أن الاستشراقية ليست مجرد ظاهرة تاريخية، بل أهم أدوات الحداثة الرأسمالية التي لا تزال تؤثر على العلاقات بين الغرب والشرق الأوسط حتى اليوم.

اتفاق سايكس بيكو ورسم الواقع الصعب لشعوب ومجتمعات الشرق الأوسط

اتفاق سايكس بيكو هو اتفاقية سرية وقعت في عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا، حيث قاموا بتقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ فرنسية وبريطانية. هذا الاتفاق كان له تأثير كبير على تشكيل الواقع الصعب لشعوب ومجتمعات الشرق الأوسط من خلال : 

1. تشكيل الدول القومية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط.

2. أدى الاتفاق إلى تشكيل صراعات حدودية بين دول وشعوب ومجتمعات الشرق الأوسط.

3. رسخ الاتفاق إلى تشكيل صراعات سياسية واجتماعية بين شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط.

4. نجح الاتفاق في وضع أسس الحداثة الرأسمالية ورسم السياسات  الاقتصادية في المنطقة.

لذا، يُمثل هذا الاتفاق حجر الزاوية الذى شكّل تاريخ منطقة الشرق الأوسط الحديث، ووضعها فريسة سهلة للجماعة الدولية الحاكمة، وأدخل شعوبها في التيه العظيم.

الثورة الذهنية طريق الحل

عند طرح إشكالية توعية المجتمعات والشعوب، تتبادر الكثير من الأفكار منها من يقبل الطرح ومنها لا، إلا أن ما طرحه المفكر والفيلسوف الكردي عبدالله أوجلان فيما يخص عملية الوعي ، وارتكازها على تغيير الذهنية وإعادة قراءة تاريخ المنطقة بشكل أوسع وأعمق هو السبيل المثالي لضمان صيرورة عملية الوعي ونجاحها ولعل الشعب الكردي نموذجاً مميزاً في استيعاب وتقبل الثورة الذهنية، لذا، بات ضرورياً توضيح مفهوم الثورة الذهنية، حيث يرتكز على وصف التغيرات الجذرية في طريقة التفكير والتصرف في إطار المجتمع. ويتضمن هذا المفهوم إعادة تقييم القيم والعادات من منظور وعي حقيقي، مستندًا إلى تاريخ المنطقة الأصيل. إن الثورات الذهنية تمثل تحولًا جذريًا في إدراك الأفراد لمحيطهم وكيفية تعاملهم مع التحديات المعاصرة. فهي تدعو إلى الابتكار والاستجابة للمستجدات بطريقة تتماشى مع احتياجات المجتمع، مما يسهم في خلق بيئة ملهمة تعزز من التفكير النقدي والإبداع. أضف أيضاً، إن الفهم العميق لأسس الهوية الثقافية والتاريخية للمنطقة يلعب دورًا محوريًا في هذه العملية، مما يعزز قدرة الأفراد على تطوير حلول جديدة تتماشى مع تطلعاتهم نحو مستقبل أفضل. 

التجربة الأوجلانية وتوظيف الثورة الذهنية

نجح أوجلان في قيادة الشعب الكردي عبر حزب العمال الكردستاني نحو إحداث ثورة ذهنية عظيمة، مرتكزة على وعي الحقيقة من خلال قراءة التاريخ الصحيح للمنطقة، بدلاً من التاريخ الذي يدور في فلك القومية. هذه الدائرة المغلقة هي التي أسهمت في تغييب شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط وجعلتها أسيرة لأدوات الحداثة الرأسمالية. حيث عانى الشعب الكردي من ممارسات الأنظمة القومية بشكل قاسٍ، مما دفع أوجلان إلى العمل على إعادة بناء الفرد الكردي بعيدًا عن أساليب الحداثة الرأسمالية. ونتيجة لهذه الجهود، أصبح كل كردي مقاومًا لتلك الأساليب، وهو تطور عظيم يُعبر عن تحول جذري في هيكل المجتمع الكردي. لقد تجلى إعلاء المجتمعية التشاركية على حساب الذاتية الأنانية في سلوك الشعب الكردي، مما أسفر عن تقوية الروابط الاجتماعية وتعزيز الهوية الجماعية. هذا التحول يعكس قدرة الشعب الكردي على تجاوز التحديات، ويُبرز أهمية الوعي الجماعي في مواجهة قوى الاستبداد والتفكك.

ونجحت جهوده في رصد دوافع إحداث ثورة ذهنية، ومن هذه الدوافع ضرورة البحث عن بدائل جديدة عندما يصبح الوضع الراهن غير قابل للاستمرار، كذلك التفاعل مع ثقافات وأفكار جديدة حيث تحفز عملية التغيير الذهني، ضرورة سعي الأفراد إلى فهم عمق الحقيقة ( وعي الحقيقة) حتى يتم إعادة تقييم الأفكار والقيم بعيداً عن مؤثرات الحداثة الرأسمالية. 

عند هذا الحد، قسم أوجلان الثورة الذهنية إلى مراحل ، تبدأ بمرحلة الشك والقائمة على التخلص من الأفكار والقيم التي زرعتها الحداثة الرأسمالية، ثم مرحلة البحث، والتي تركز على سعي أفراد المجتمع للبحث عن أفكار وبدائل جديدة، انتهاءً بمرحلة التغيير حيث يتم تطبيق الأفكار والقيم الأصيلة في الحياة العملية. وعلي هذا النحو تعامل أوجلان مع عملية إعادة بناء الفرد، والذى انعكس إيجابياً بالتطور الشخصي والتغيير الاجتماعي والإبداع والابتكار. 

فقد تجددت جهود أوجلان نحو ثورة فكرية وثقافية عظيمة، وهو ما يمكن تسميته بالتحول النموذجي. لقد عاش في ظل هذه الثورة منذ منتصف التسعينات مع تصاعد ، حيث بدأ خطواته الأولى في منتصف الثمانينات، وتحديدًا خلال المؤتمر الخامس الذي أُقيم في 1 أيلول / سبتمبر 1998. حيث أراد أوجلان تحقيق وقف إطلاق النار في الأول من أيلول/سبتمبر، حيث تم بناء وجهات نظر ومبادئ جديدة تهدف إلى حرية جميع المضطهدين وتعزيز الحياة الديمقراطية من أجل الحياة الديمقراطية والحرة للإنسانية ، وعلى هذا الأساس تم بناء نموذج جديد علي أساس ثورة الحقيقة. في هذا الإطار، تم خلق نموذج جديد يقوم على ثورة حقيقية تعني حياة مجتمع بلا سلطة وبلا دولة. تم تشكيل قيادة ومهد الطريق إلى مجتمعات وشعوب الشرق الأوسط نحو الإنسانية، حيث تم الاهتمام بموضوع حرية المرأة وتأسيس هيكل قيادي يُعرف بالحرية الاجتماعية والإدارة الديمقراطية.

لقد سعى أوجلان من خلال فكرته الكردايتية، التي تطورت على مدى خمسين عامًا، إلى فهم الحياة عبر التعلم من التجارب الأخرى، مما مهّد الطريق لتأسيس كردايتية جديدة تتيح للجميع فرصة القيادة خلال التطورات المتصاعدة في كردستان. أظهر أوجلان تطورًا قياديًا ملحوظًا في أصعب الظروف وأضعف المراحل، حيث كانت الفرص محدودة.

هذه الحقيقة تجسد ولادة عظيمة في سبيل جميع الشعوب، النساء، والشباب، وتهدف إلى تحقيق القيم الإنسانية. تُعتبر أفكار أوجلان في النموذج الديمقراطي والبيئة والمطالب بالحريات والحداثة الديمقراطية نظرية جديدة تسعى لوصف واقع جديد يُعزز من التعايش السلمي والعدالة الاجتماعية.

الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا نموذجاً حياً للثورة الذهنية

لعب الكرد دور محوري في شمال وشرق سوريا في وقف التطلعات التركية نحو عثمانيتها الجديدة، واستطاع المكون الكردي المتسلح بالوعي من التضامن والالتفاف مع باقي مكونات المنطقة بكافة تنوعاتها، وكونت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في شكل مجتمع الأمة الديمقراطية، وتطبيق ثورة ذهنية حقيقية، جعلت الجميع يداً واحدةً في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي نيابةً عن شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، وهي الآن وحصرياً تواجه الهجمات التركية التي تبتغي السيطرة على شمال وشرق سوريا، وكذلك الضغط التركي على الحكومة السورية الجديدة لاستبعاد الإدارة الذاتية من العملية السياسية في سورياً، خوفاً من تعميم هذا النموذج الضامن الوحيد لبقاء الأمة السورية . 

لذا، مثل هذا النموذج ضرورة طرح مفهوم الثورة الذهنية للدراسة والتطبيق لأنه طوق نجاة حقيقي لمنطقة الشرق الأوسط، فإن الطرح الأوجلاني يُقدم رؤية شاملة حول عملية التغيير الذهني وأهميتها في حياة الأفراد والمجتمعات. ولعل الحل يكمن على الأراضي السورية في ضرورة الانفتاح على نموذج الإدارة الذاتية، والاستفادة من تجربته بما يضمن بقاء حدود الدولة السورية، فلا بد من استبعاد مبدأ المغالبة والاتجاه السريع نحو التشاركية. 

إن كل ما يدور الآن ومن قبل على أراضي الشرق الأوسط، والصورة السلبية التي صدرتها الحداثة الرأسمالية عن مجتمعات وشعوب الشرق الأوسط ،عبر أدوات الحداثة الرأسمالية (الكتابة، الصحافة، الإعلام، الرياضة، الثقافة،...إلخ)، التي ضربت أواصر الأسرة في مقتل، ثم اتجه نحو الفرد، وبدأت في تغيير احتياجاته، متطلباته، سلوكه، إنسانيته...إلخ، عزز الفردية الأنانية على حساب المجتمعية، ودار الجميع في فلك يصعب الخروج منه إلا من خلال طريق واحد وهو الوعي. ولعل الثورة الذهنية هي المسئولة الوحيد عن عودة الوعي مرة أخري وبناء إنسان مفيد لوطنه ومجتمعه، لذا، لابد أن نأخذ أفكار المفكر والفيلسوف الكردي عبدالله أوجلان على محمل الجد، نظراً لواقعيتها وصدقها، ومن الضروري أيضاً طرح مشروعه الفكري( مانيفستو الحضارة خمسة أجزاء) على العقل الجمعي الشرق أوسطي لإعادة تقييم الحالة التي وصلنا إليها ووضع الحلو الناجزة والسريعة لفك الأزمة الشديدة التي تضرب شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط وهى ( تغييب الوعي) حتى يُمكننا مواجهة المشاريع الاستعمارية التي تُريد اعادة خريطة الشرق الأوسط بشكل أصعب بكثير من الخريطة الموضوعة في أعقاب اتفاق سايكس بيكو، وفى حالة نجاح تلك المخططات لن نقول (ما أشبه الليلة بالبارحة) ولكن سنقول ( قول الزمان.. إرجع يا زمان).

قد يهمك