بث تجريبي

ماهي السياسة؟

إن أكبر إنجازات الدولة وانتصاراتها خلال مسيرة استعبادها هي جر المفاهيم المعيشية – الأخلاقية – التفاعلية إلى الحيز المتعالي والمؤسساتي وبالتالي إخراجها من دائرة السيسيولوجيا، كان لمفهوم السياسة أكبر نصيب منها فكل استدعاء ذهني للسياسة هي جلبها ورفعها عن المتناول الاجتماعي أي تجاوزها للذوات الفردية بحيث تكون شبيهة بالتعالي اللاهوتي. فعندما يتكلم الشارع عن السياسة فإنه يقترب منها باعتبارها شيئاً غير مفهوم وعصياً عن الإدراك. لذلك دُرّج على تقريب السياسة من اللاهوت من حيث أنها شيءٌ "في ذاته" لا يمكن معرفته خاصة من قبل العموم، إنه شيء مجرد لا يمكن الوصول إلى كُنّته، ونحن بطبيعتنا غير مخولين في الوصول إليه مما يجعل السياسة تخرج من دائرة اليومي "القدرة على الفعل" وتصبح حكراً على فئة معينة هي التي تفهم السياسة "القدرة على التأمل" ومن هذا التعالي السياسي ظهرت الأحزاب والرؤوساء والصفوة أي أن الأحزاب السياسية والصفوة المختارة ماكان لها أن تظهر لولا قيامها بالعملية الإزاحية للسياسة من مجال المحايثة باعتبارها "الممارسة اليومية" إلى مجال التعالي باعتبارها "الشيء في ذاته" المحتكرة من قبل فئة مختصة والتي عرفها أفلاطون ب"الإختصاص الدقيق" .

في هذا المقال سوف نتتبع التاريخ الأخلاقي والبيداغوجي للسياسة حيث سندّعي بأن السياسة كانت في البداية أخلاقاً وفناً "تربيةً وعلماً" ومن ثم سنكتشف كيف فقدت السياسة ميزتها الأخلاقية، وفي الأخير سنجد كيف انقرضت السياسة بالمعنى المعيشي – الأنطولوجي – التفاعلي أي أصبحت السياسة لا تملك تلك الميزة الأخلاقية ولم تعد فناً إبداعياً، بل على العكس تحولت لحالة من الرياء الأيديولوجي الصريح.

السياسة بوصفها أخلاقاً وفناً: الظاهرة السياسية كما اعتقد بها القدماء من الفلاسفة، هي فرعٌ أو شأن من شؤون الأخلاق "الإيتيقا" فكما هي معلوم تفترض الإرادة الإنسانية وهناك سعي من قبل الفلاسفة الجدد "أرندت-أوجلان-هبرمس" إلى إرجاع السياسة إلى الشأن الأخلاقي فمثلاً ينطلق أوجلان من تحديده لمعنى السياسة من عبارة مختصرة ومكثفة حيث يفهم السياسة ويعرفها بأنها "فن الحرية"، وهي ذات الفكرة أو التقليد التي تروم "حنا أرندت" إلى تبنيها فهي تعتقد أن الحرية هي السبب الذي من أجله يتواجد البشر معاً، وهي المسبب الرئيسي لوجود السياسة.

عند هذا الحد يتفق أوجلان مع أرندت ويختلف معها أو لنقل يختلف مع كامل التقليد الفلسفي الذي من وجهة نظره لم يستطع أن يدرك السياسة إلا على حدود تجربة "أثينا" أي أن المرجعيات الفلسفية الغربية عند تعريفها للسياسة ورغم الخطوات الجبارة التي خطاها بقيت في عزلتها المركزية من خلال ربط السياسة بالمدينة . حيث يرفض أوجلان كل الدعاوى التي تعتقد أن المجتمعات "الماقبل" المدنية والتي تسمى بالمجتمعات البدائية هي مجتمعات لا سياسية أو لم تتعرف بعدُ على السياسة ويعتقد أوجلان أن هذه التأسيسية هي من أضعف نقاط العلوم الاجتماعية أي تأسيس السياسة بتأسيس الدولة، بل ويذهب بالضد من ذلك حيث يثبت في نسقه السيسيولوجي أن المجتمعات البدائية كانت تمارس السياسة بكلّيتها الشمولية فالسياسة بمعنى الممارسة اليومية جزء من كينونة هذه المجتمعات التي لم تفكر بالسياسة بالمعنى المتداول حالياً أي بالمعنى القانوني والمؤسساتي، حيث اعتقدت هذه المجتمعات واعتبرت أن السياسة معطى طبيعي أي كحالة وجودية وميثاقاً أخلاقياً وإرادة حرة. والمقصود بقولتنا أن السياسة هي حالة وجودية من حيث أن المجتمعات القديمة ومن كونها لا تاريخية أي لا تهتم بالكتابة، فإن السياسة بالنسبة لها وبنكهة هايدغرية هي طريقة الوجود-في-العالم. بمعنى أوضح لا تدخل السياسة في مجال التأمل أو الوعي التفكري الماقبل ممارساتي، وإنما ترتبط في علاقة تفاعلية نشيطة مع الحياة، حيث تصبح العملية السياسية طريقة قبلية لازمة للحياة، لتبدو السياسة منغمسة في المجال اليومي للبشر، فكل ما يصادفه البشر يتحول من صيغة فورية إلى شرط لوجوده، أي أنه يدخل في علاقة صراعية مع هذا الوجود تحتم عليه أن يمارس الفعل السياسي لإنقاذ نفسه. فنحن لا نختار أن نكون سياسيين أو لا، نحن باعتبارنا "موجودين-في-العالم" فإننا نمارس هذا العالم وننخرط فيه بطريقة سياسية، إن موضوعية العالم وواقعيته تفرض علينا أن نوجد فيه بطريقة سياسية.

إن إخراج السياسة من الممارسة وإدخالها في المجال التأملي-التوعوي بدأت إرهاصاته في مرحلة متأخرة وتطلب الكثير من المناورات. إن إخراج السياسة من طريقة "وجود-في-العالم" إلى السياسة كطريقة تفكرية ثابتة مستكينة كان لا بد لها من الكثير من التضحيات والصراعات، ولا يعني هذا أن القدماء لم يفكروا بالسياسة بطريقة توعوية بل لنقل أن السياسة لم تكن تتطلب مثل هذه الإشتراطات، فالتقرب من الواقع كان تقرباً مباشراً من دون وساطة "حزبية أو صفوة" فالعملية تفاعلية احتكاكية. إن مطلب الإحالة إلى المستوى المتعالي لم يكن مطروحاً إن أجدادنا مارسوا السياسة بطريقة غريزية. ومن ثم فإن تعريف "أرسطو" للإنسان بأنه حيوان سياسي بالطبع. إنما هو تأكيد بديهي على الإقتران الوجودي بين السياسة والإنسان. 

إذاً نحن نملك في جعبتنا أسّين للسياسة والأخلاق الأس الأول السياسة والأخلاق والأس الثاني السياسة والفن ولنبدأ بالأول السياسة والأخلاق يقول أوجلان أنه بمقدورنا أن نقيّم الأخلاق بأنها الذاكرة السياسية للمجتمع. لذا فإن المجتمعات المنحطّة خُلقياً، أو التي تفتقر الأخلاق، تدل على ضعف ذاكرتها السياسية وتشير بالتالي إلى مدى فقدانها للدفاع الذاتي، وإسقاطها في حالة ينفتح فيها على شتى أشكال الممارسات التحكمية والاستعمارية والصاهرة داخلياً وخارجياً. من هذه العلاقة العضوية والكثيفة يبدأ أوجلان مشروعه السياسي بدعوى أخلاقية، وهو ينتقد جميع المذاهب الفلسفية التي قطعت الصلة بين الأخلاق والسياسة، معتبراً أن ممارسة السياسة من دون وجهة أخلاقية يخرج السياسة كهدف اجتماعي يستهدف الخير يتحول إلى سلطة مجردة. فإذا كانت وظيفة الأخلاق ممارسة الأعمال المصيرية بأفضل الأشكال، فوظيفة السياسة هي إيجاد أفضل الأعمال.

ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ألا تصبح السياسة بهذا المعنى طرحاً عقيماً يحيل إلى المستوى النظري وهو بالتالي على عكس ما ندعيه أنه يلامس الواقع ومن ثم يصبح الكلام عن هذا الشكل من السياسة "السياسات الأخلاقية" شبيهة بتلك اليوتيوبيات التي عدّها الفلاسفة بمثابة اقتراحات مثالية يتعذر تطبيقها في العالم الحقيقي؟ إن ما يدعى بالسياسات الواقعية التقليدية وبالشكل المطروح "الشكل الدولي" قد فقد معناه وبات فشل السياسة بالمعنى الباراغماتي الفج تصريحاً من قبل جميع المفكرين. حيث باتت الشعوب تنفر من هذه السياسات والإدعاءات فالأفق الجديد لعالمنا اليوم بات مفتوحاً على نوع آخر من السياسات.

الأس الثاني السياسة بوصفها فناً كان أفلاطون أول من لفت الإنتباه إلى هذه المجادلة أي ربط السياسة بالفن وذلك من خلال عبارة أستاذه "سقراط" القائلة بأن "الفضيلة هي المعرفة" وهذه المعرفة لا يدركها كما مرّ معنا سابقاً إلا الفلاسفة الذين يتقنون "فن الحكم" وهذا الفن لا يمكن الوصول إليه من خلال عملية بيداغوجية طويلة لكن ما يعاب على رأي أفلاطون أنه يقدم لنا تبريراً لمسألة الإستبداد المستنير، سيدرك أوجلان هذه المعضلة في اقتراحه فهو يرى أن الفن من عمل السياسة وهو إبداع حيوي غير مقيد بأي نمط جاهز أو مرجعيات تقيده، أو صفوة مختارة تنفذه فهي بمعنى ما علاقة تفاعلية بين الشعب وإدارته.

تعرضت السياسة إلى نسفين خلال تاريخهما الأولى وقعت تحت يد الحداثة في عصر السياسات اللاأخلاقية عندما حولت الحداثة الواقع إلى مجرد كمية "عدد" تتوقف قيمتها على مقدار إمدادنا بالنتائج المطلوبة ، هذا التحويل للعالم إلى شيء أفقد العالم عالميته، وانسحب العقل من حيز الممارسة إلى التجريد والملاحظة حيث فقد الإنسان آلية التعامل مع العالم بوصف هذا العالم وجوداً تفاعلياً لصالح تحويله إلى مجرد مشاهد أو مراقب. فهو مجرد مستقبِل سلبي لهذا العالم. هذه النتيجة ستؤثر سلباً على السياسة فبعد أن كانت السياسة فعلاً اجتماعياً محايثاً تجد أرضيتها العملية داخل الفضاء الاجتماعي تحولت إلى حالة نظرية متعالية، مستأصلة من القاعدة. ليُفكّر بها من الأعلى. إن السياسة بابتعادها عن الفعل الجماعوي سيتتبع بالضرورة ابتعادها عن الهدف الأخلاقي الذي يهدف ما هو صالح للجماعة إلى الهدف النفعي "الكسب"، فترتبط السياسة بمقدار المحافظة على السلطة وكسب المنافع وفي هذه الللحظة الحداثوية سيتغير التقرب من السياسة فبعد أن كانت السياسة فعل الحرية والممارسة ستغدو مع الحداثة عملية المفاضلة والموازنة بين المكاسب والمضار على أساس عملية حسابية دقيقة. وبات التكلم عن السياسة باعتبارها فرعاً من فروع الأخلاق ثرثرة لا طائل منه ومع الفيلسوف الإيطالي "نيكولا ميكافيللي" ومن ثم الإنكليزي "توماس هوبز" بتنا أمام الحداثة السياسة ، فميكافل أول من تحدث بلغة صريحة عن كيفية نزع السياسة عن إطارها الأخلاقي بمعنى أننا مع ميكافل نشاهد أول نص بيداغوجي-تقني واضح وهو كتابه "الأمير" حيث يدعو صراحة إلى السياسات الديماغوجية الخالية من الأخلاق. فقبل ميكافل وكل الذين دعوا إلى نزع الأخلاق عن السياسة إنما نادوا بذلك في حالات معينة وليس كمبدأ عام فحتى فيلسوف بوزن أرسطو دعا في إحدى فقراته إلى صعوبة القدرة على تطبيق المبادئ الأخلاقية للسياسة في كل ميادين الحياة لكن هؤلاء لم يتجرؤا على الإشهار جهراً لهذه العملية بل على العكس اعتبروا أن التخلي عن الأخلاق أو الخير في بعض الحالات إنما يكون بدافعٍ آخر أي من أجل خير أكبر وهدف أسمى.

يبدأ ميكافل بتحليل الطبيعة البشرية من فرضية أنها أنانية في جوهرها وتهدف إلى التملك والفردانية والعدوان، سنلاحظ أن تعداد هذه الصفات السلبية واللاأخلاقية مختلفة كلياً عن "مواطن" أرسطو وأفلاطون ذاك الذي بطبعه سياسي ويستهدف تحقيق الخير.إن السياسة مع ميكافل بدلت بوصلتها حيث أصبحت تُمارس ضد الشعب وبعيداً عنه بعد أن كانت تمارس مع الشعب وداخله. إن أهم درس تعليمي للأمير حسب ميكافل هي أن الحاكم باعتباره خالق الدولة ليس خارج القانون فحسب، ولكنه خارج الأخلاق أيضاً، إن هذه الدعوة الشرسة للاأخلاقية السياسية عند ميكافل لم تأتي عن عبث فهو وجد أن بناء دولة قوية يتطلب شرطاً أساسياً هو اللاأخلاقية وأن تأسيس "الدولة القومية" لا يتم بناءً على الفضائل الأخلاقية للسياسة ومن ثم فقد ربط ميكافل وبكل جذرية بين الدولة واللاأخلاقية السياسية إن ميكافل وبكل جدارة هو أول من وضع قطيعة مع الأخلاق المسيحية والرواقية وفلسفات أفلاطون وأرسطو وقيم الشرق، حيث ستجد الدولة القومية في هذه المبادئ ما يدعم إرادة القوة الفتية لديها بحيث تصبح لاأخلاقية السياسة مقدسة لنصل إلى "الدولة الوضعية" .

لكن إذا كان ميكافل قد انتزع عن السياسة إحدى دعامتيه وهي الأخلاق إلا أنه من ناحية أخرى حافظ على الدعامة الأخرى ووثقها واعتبرها شرطاً ضرورياً للسياسة وهي الفن حيث أدرك أننا لا يمكننا أن ننزع الفن عن السياسة وهو يرى أن السياسة هي فن من فنون الحكم يكتسبه الشخص من خلال تجارب عديدة وطويلة.

النسف الثاني وقع مع فلسفات ما بعد الحداثة هذه الفلسفات التي تهدف إلى إلغاء مركزية الإنسان بطريقة سلبية حيث لم يعد الإنسان غاية في حد ذاته كما دافع كانط عن ذلك بل تحول إلى حجر عثرة "كائن زائد" وزالت عن السياسة تلك الروح الإبداعية التي تهدف إلى خلق ما هو حسن وقدمت لنا "اللاشيء" إنها بعبارة سارتر "اتجاه نحو التعديم" إن هذه العدمية السياسية ليست حالة حكومية بل هي حالة جماهيرية تصيب الجموع، ومن أهم أسبابها فقدان الثقة من قبل السعوب تجاه الواقع إنها حالة من الهلع اتجاه العالم حيث تكف الشعوب عن مجابهة الواقع بإبداعها السياسي وتعول على "الأخ الكبير-المتعالي" الذي يظهر. إن هتلر لم يظهر لأنه يمثل آمال الشعب الألماني بل ظهر لأنه يمثل اللاأمل الألماني إن اللاأمل أكبر مصنّع للسرديات العدمية، هذه السرديات التي تهدف نزع الصفة الإبداعية عن السياسة باعتبارها فناً وتحولها إلى منبع غرائزي تافه لا جدوى منه وهذه خاصية تعتبر استمراراً لفقدان الذات لدورها الإبداعي داخل العالم. تمثل الترامبية ذاك الشكل المابعد الحداثي لنمط السياسات العدمية فهذا الخط يعرف عن نفسه من خلال نسف كل أخلاقيات ومبادئ السياسة ويستهزء بها ولا يملك أي مشروع يدعي بالمعنى الذي نعرّف فيه السياسة كفن إن هذا الخط ينسف ذاك الأساس الميتافيزيقي للسياسة التي عرّفها أفلاطون ذات قرن بأنها فضيلة المعرفة "فن الإدارة" إن الترامبية تكمل الإطاحة الثانية بالسياسة من حيث هي فن بعد الإطاحة الأولى التي قام بها ميكافل.والسؤال هل نعيش زمن أفول السياسة بمعناها الرمزي الجمالي؟ لا يمكن طرح هذا السؤال في السياق البشري وأي طرح غايته تبخيس الجنس البشري وتحويله إلى نمط من التطابق والإمتثالية "الزومبي". إن اللحظة التي يتم فيها إلغاء السياسة من أفق الجماعة البشرية هي اللحظة التي يتم فيها انزياح تلك الجماعة من أفق الإنتماء إلى العالم.

لمواجهة هذا الموقف المتأزم يطرح أوجلان مفهوم السياسة بمعنى الصداقة ولا يقصد أوجلان الصداقة بالمعنى الأخلاقي فقط بل يمده إلى المعنى الأنطولوجي، إن تناول أوجلان للصداقة السياسية قريب جداً من تناول أرسطو أي أن الصداقة ثمن الفضيلة ويدعوها أرسطو "بصداقة المدينة" فالهدف الرئيسي للسياسة حسب أرسطو هو خلق الصداقة بين أفراد المدينة. يصر أوجلان على استعادة المعنى الأخلاقي للسياسة ويعتبر أننا لا نستطيع أن نعيد إلى السياسة مكانتها الأخلاقية إلا عبر الصداقة وإن ما مارسته السياسة بالمعنى الدولي هو إزاحة الصداقة من أفق السياسة إن فعل السياسة في العصر الحديث ينشأ بالتوازي مع فعل الخيانة. إن الصداقة وحدها تجعل السياسة حرة ولا تجعل الشعوب رعاعاً أو أتباعاً بل أحراراً في فعلهم.

قد يهمك