في تلك اللحظة الفاصلة بين شتاء يودع آخر أنفاسه وربيع يتثاءب عند أفق الشرق، تشرق الشمس على النوروز، عيد الربيع، العيد الذي تسللت شعاعاته عبر القرون، حاملاً معه عبق الشعوب التي دارت في فلكه منذ أن كان التاريخ طفلاً يحبو على أرض فارس ووسط آسيا، ثم امتد ليُصبح عيدًا أممياً يُحتفى به على امتداد طرق الحرير القديمة.
لكن، وكما تعودنا، فإن الأحداث لا تظل بريئة في سياق السياسة، ولا الربيع يزهر دائمًا بلا شوك. حين ننظر إلى خريطة النوروز، نجدها تتقاطع مع بؤر ملتهبة في الجغرافيا السياسية، من إيران حتى كردستان العراق، ومن أفغانستان التي تنهض متثاقلة بعد عقدين من الاحتلال الأمريكي، إلى تركيا التي تتحرك بحذر فوق لغم العلاقات الكردية المعقدة. كل هذه البلدان تحمل النوروز في قلوب شعوبها، لكنه في الوقت ذاته يظل جزءًا من معادلات القوة والصراع والهوية.
في إيران، حيث يتجذر النوروز في تربة التاريخ، يبدو العيد هذه السنة مختلفًا، في ظل صخب الاحتجاجات والضغوط الدولية، وعودة الحديث عن البرنامج النووي والمفاوضات المتعثرة. فالنوروز ليس مجرد احتفال عند الإيرانيين، بل هو شيفرة ثقافية تسبق حتى الإسلام، ولكنه أيضًا مناسبة تُطلق فيها النخب السياسية رسائلها، وهوامش يمكن فيها للمجتمع أن يتنفس قليلاً بعيدًا عن أجواء التوتر. فهل يكون النوروز استراحة محارب للنظام، أم فرصة للشارع كي يعيد ترتيب أولوياته؟
على الجانب الآخر، في كردستان، يتخذ النوروز طابعًا أكثر كثافة رمزية. ففي كل عام، تتحول احتفالاته إلى استعراض سياسي بامتياز، حيث يرتدي المحتفلون الأزياء الكردية التقليدية، ويشعلون النيران رمزًا للمقاومة. لكن هذا العام، تأتي الاحتفالات في ظل أوضاع أمنية متوترة، مع تصاعد التهديدات التركية، والعمليات العسكرية التي تستهدف مواقع حزب العمال الكردستاني. فهل يكون النوروز هذه السنة مجرد عيد، أم أنه سيتحول إلى منصة أخرى للصراع؟
أما في أفغانستان، حيث أُعيد النوروز إلى قائمة المناسبات "غير المرغوب فيها" بعد عودة طالبان إلى السلطة، فإن العيد يواجه اختبار البقاء وسط مناخ جديد من التشدد الأيديولوجي. وعلى الرغم من أن النوروز كان جزءًا من التراث الأفغاني لعقود، إلا أن الحركة تعتبره تقليدًا غير إسلامي، ما يضعه على حافة الإلغاء أو القمع. فهل يستطيع النوروز أن يظل حاضرًا في وجدان الأفغان، حتى لو غاب عن ساحاتهم العامة؟
تركيا.. القفز على النيران بين أنقرة وأربيل .
وفي تركيا، حيث تنظر الدولة بعين الريبة إلى أي احتفال كردي يتجاوز الطابع الثقافي، فإن النوروز ليس مجرد مهرجان، بل اختبار دائم لعلاقة السلطة بالأكراد. في السنوات الأخيرة، حاولت أنقرة ضبط إيقاع الاحتفالات، لكن التوترات السياسية، سواء في الداخل أو في شمال العراق وسوريا، تجعل من كل رقصة نوروزية خطوة محسوبة في لعبة التوازنات الدقيقة.
بين السياسة والتاريخ، بين الاحتفالات والقمع، بين الصراعات والآمال، يظل النوروز ذلك العيد العنيد الذي يأتي في موعده كل عام، غير آبه بتقلبات الأنظمة، ولا بتغير موازين القوى. فكما تفتح الورود بتوقيت الطبيعة، لا بتوقيت الساسة، يظل النوروز رمزًا لإرادة الشعوب في التجدد، في التمسك بالجذور، وفي الاحتفاء بالحياة حتى لو كان العالم من حولهم مشتعلًا.
نوروز.. الربيع الذي يتحدى العواصف في سوريا أيضاً هو ليس مجرد عيد.. إنه درس في البقاء.
حين يتسلل النوروز عبر الزمن والجغرافيا، يحمل معه عبق الاحتفال والهوية، لكنه أيضًا يصطدم برياح السياسة والتاريخ والصراعات الممتدة. وإن كان هذا العيد، الذي يرمز إلى التجدد والانبعاث، قد استطاع أن يبقى صامدًا وسط التحولات الكبرى، فإن استمراريته في بعض المناطق باتت أكثر تعقيدًا، خصوصًا في سوريا، حيث باتت مسألة الهوية، كما هو الحال في دول أخرى، ميدانًا للمنافسة بين القوى الفاعلة.
في سوريا الشقيقة، يأتي النوروز هذا العام في ظل مشهد مُعقد جداً. فالمنطقة التي تضم جزءًا كبيرًا من المحتفلين بالنوروز، خاصة في شمال وشرق سوريا، تعيش على إيقاع تحولات جذرية مفزعة، حيث تتشابك خيوط السياسة الإقليمية والتدخلات الدولية، وسط تحذيرات من أن الصراعات الحالية قد تؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية والديموغرافية، بما قد يُطمس بعض الهويات، أو يكرس واقعًا جديدًا تُفرض فيه إرادةُ قُوى معينة على حساب الآخرين.
الأكراد في سوريا، الذين يرون في النوروز أكثر من مجرد احتفال، بل رمزًا لصمود هويتهم الثقافية، يجدون أنفسهم في معادلة صعبة، بين محاولات الحفاظ على مكتسباتهم في ظل الإدارة الذاتية، وبين التحديات التي تفرضها السياسات الإقليمية، سواء من تركيا التي تواصل عملياتها العسكرية شمال سوريا، أو من القوى الكبرى التي تتعامل مع الأوضاع هناك ببراغماتية، تجعل المصالح تتغير وفقًا لميزان القوى لا لميزان الحقوق.
في أجواء النوروز، حيث تحتفي الشعوب بحقها في الحياة، يصبح الحديث عن المخاطر التي تهدد الهويات أمرًا ضروريًا. فترك بعض القوى في المنطقة تنجرف نحو تحقيق أطماعها، مع تجاهل حقوق المكونات الأصيلة، قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة، ليس فقط على المدى القريب، بل على استقرار المنطقة بأسرها.
تجاهل الأصوات التي تحذر من هذه المخاطر، قد يجعل المنطقة ساحة لمزيد من الفوضى، حيث تُستغل التحولات لصياغة واقع جديد لا يأخذ في الاعتبار التنوع القومي والثقافي. ومن هنا، فإن النوروز يمكن أن يكون مناسبة لفتح أعين العالم على ما يجري، ليس فقط عبر مظاهر الاحتفال، بل عبر الرسائل التي يحملها حول حق الجميع في الحفاظ على ثقافاتهم وهوياتهم، بعيدًا عن مشاريع الإقصاء أو التغيير القسري للخرائط السكانية .
النوروز ليس مجرد عيد، بل هو انعكاس لمقاومة الزمن والاضطهاد، ولعل التاريخ يقدم دروسًا لمن يريد أن يقرأه بعين البصيرة، فالمحاولات السابقة لطمس الهويات وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بالقوة لم تؤدِ إلا إلى مزيد من التعقيد والانفجارات. واليوم، في سوريا وغيرها، يبقى السؤال مطروحًا: هل تستوعب القوى الفاعلة في المنطقة الدرس، أم أن التاريخ سيعيد نفسه بأثمان أكبر؟
وسط كل ذلك، يظل النوروز احتفالًا عنيدًا بالحياة، في مواجهة من يريدون التحكم في مصائر الشعوب.. وهو درس آخر في البقاء.