بث تجريبي

النوروز: أيقونة الحرية والمقاومة الكردية الخالدة

منذ عام 612 ق.م وحتى الآن، يحتفل الكرد أينما كانوا وبكل طوائفهم وأطيافهم بالنوروز بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والدينية والثقافية.وعلى مدار حوالي 2639 سنة ما برح النوروز يتجدَّد ويُزهر ويثمر على الدوام كل عام. إنه عيد المقاومة والبطولات في وجه الظلم والاستبداد، وصوت السلام المناهض للحروب. كما أنه عيد المحبة والفرحة والأخوة. ويشترك مع الكرد جميع الشعوب المتآخية معه داخل كردستان وجواراتها.

      إنه أحد أقدم الأعياد في التاريخ البشري. من أبرز الأعياد الحية القليلة (مثل شم النسيم المصري) التي حافظت على ديمومتها وحيويتها لشعب عشق الحرية ورفض التبعية. وبينما اتسم النوروز الفارسي برمزية إمبراطورية توسعية، اتسم النوروز الكردي برمزية ثورية وسمات التحدي والصمود والاستمرارية على نحو ما سوف نرصد بعض ملامحه حالاً من رحم الأسطورة حتى الوقت الحالي.

أسطورة كاوا

      لم يكن البُعد الأسطوري لعيد النوروز الكردي عشوائيًا؛ إذ حمل بين أحشائه سمات الهوية الكردية بامتياز. وحسب الرواية المتواترة: " كان في قديم الزمان ملكًا ظالمًا يُسَّمى الضحاك (أزدهاك) ظهر على كتفيه ثعبانين هائجين، وقد أشار أطباؤه بأنهما لا يهدأن إلا بلعق مخ ودماء شابين كل مساء، ولدى تنفيذ وصفة الأطباء،  ضج الناس من ظُلم الملك..".

      وأردفت الرواية: "وكان كاوا الحداد قد فُجع بثلاثة من أبنائه. ولما جاء دور ابنه الرابع، عمد إلى القيام بثورة، استعان فيها بأطفال أنقذهم من الموت، وقّدَّم لهم التدريب في جبل كانوا يعتصمون به. وقد أقام كاوا نارًا هائلة فوق الجبل ليُخبر القرى المجاورة لقريته بنبأ الثورة التي يستعد لإشعالها،...".

      ووصلاً للرواية: ثار كاوا في وجه الملك الجزار وجلاديه، وتبعته الثكالى والمنكوبين، رافعين ثياب الحداد السوداء، كرايه لهم، ويتخلصوا من الملك الجزار المُستبد، وعبروا عن فرحتهم وانتصارهم بإشعال النيران على القمم، إيذانًا بنهاية عصر الظُلم والظلام وإيذانًا ببداية عصر الحرية والنور. وقد تصادف هذا الانتصار مع قدوم الربيع وتجدُّدُ الحياة في 21 آذار – مارس، يوم النوروز؛ أي اليوم الجديد.

      ظل الكرد برفقة الشعوب الآرية والميزوبوتامية منذ هذا التوقيت يحتفلون سنويًا بهذا الحدث الرمزي القومي طوال التاريخين القديم والوسيط رافعين راية كاوا مشعلين النيران ومنطلقين في الطبيعة يرتدون ملابس جديدة ذات ألوان زاهية باهية.

من الأسطورة إلى الواقع

      اتسم الواقع الكردي منذ قبل تدوين التاريخ وحتى الوقت الراهن بمقاومة الظلم والاستبداد والجمود والانتفاض ضدهم والثورة عليهم. وفي هذا السياق، اقترفت الأنظمة السياسية المستبدة في الفضاء الميزوبوتامي والكردستاني جرائم ضد الإنسانية بحق الكرد (تدمير قرى) سلب ونهب، مذابح جماعية .. الخ)، بدءًا من السومرية والأكادية مرورًا بالبابلية وليس انتهاءً بالآشورية.

      إبان حقبة الإمبراطوية الآشورية (2025-612 ق.م)، تعرَّض أسلاف الكرد لسلسلة غزوات واحتلالات وانتهاكات. ولذا، انتفضوا لاسيما خلال الانتفاضات الميدية ضد الغزوات الآشورية. فمثلاً، غزا توكولتي نينوريا الأول (890-884 ق.م) كردستان كل عام. وغزا آشور ناصر بال (884-     860 ق.م) كردستان عامةً، وأقام فيها أهرامات من رؤوس الضحايا، ودمر إمارة إنكا في بلاد زامورا، وقام بتهجير أهلها إلى جبل الكرد – عفرين. ولذلك، انتفضت الشعوب الميدية على مدار أكثر من مائة عام ضد الظلم الآشوري على ثلاث مراحل:

  1. 727-675ق.م: ثورة دياكو اندلعت في نوروز 727ق.م، وخلالها ارتكبت الآلة الآشورية المستبدة مذابح وحشية ضد الأمة المنتفضة لاسيما في أورميا وفان (وان). وانتهت بإخماد الثورة ونفى دياكو وأسرته والمشاركين معه إلى حماه.
  2. 673-625 ق.م: ثورة خشتريت اندلعت في نوروز 673ق.م، وحققت الانتصار في عام 625ق.م، وتحرَّرت ميديا من الظلم الآشوري، ومن ثم، تشكلت الدولة الميدية
  3. 625-612ق.م: ثورة كي آخسار، وبموجبها سقطت نينوى العاصمة الآشورية، وقيام الإمبراطورية الميدية التي استمرت حتى عام 550ق.م

ومنذ تأسيس الدولة الميدية، ظل الكرد يحتفون مع قدوم كل ربيع بالنوروز استذكارًا لانتصارات الهوية الكردية، وتعبيرًا عن تخليد الشهداء والمنفيين، وتجسيدًا عن فرحة الشعب للتخلص من الكابوس الذي أثقل كاهلهم مئات السنين.

ورغم أن فريقًا من الكرد يميل إلى اعتبار عام 625ق.م؛ عام الإنتصار على آشور، هو بداية التقويم الكردي السنوي، فإن الأغلبية الكردية اقتنعت بعام 612ق.م؛ عام سقوط العاصمة الآشورية وقيام الجمهورية الميدية. ومهما يكن من أمر، أضحى للكرد عيدًا قوميًا يحتفون به أينما كانوا في 21 آذار – مارس من كل عام.

 

المغزى والمعنى والمبنى

      وُلِدت ونمت وترعرت سمات الشخصية والهوية الكردية في رحم النوروز وفعالياته وتداعياته في الزمان والمكان والإنسان، ولا غزو؛ إذا اعتصم كاوا في الجبال، وأعد ثورته بها، ودَّرب جيل الثورة بها استعدادًا للإنقضاص على المستبد الظالم. ولاغرو؛ إذ تُعد سلاسل جبال زاجروس وأرارات وطوروس الضخمة في غرب آسيا بمثابة العمود الفقري للوطن الكردي.

وجيولوجيًا، فصلت جبال الكرد بين ميزوبوتاميا والهضبتين الإيرانية والأناضولية، ومن ثم، صارت أرض الكرد رئة جد مهمة وحيوية في الشرق الأوسط. وللأسف، صارت مطمعًا للقوى الإمبراطورية والإقليمية.

      هكذا، رسمت أسطورة كاوا والتحديات الميدية ضد الآشورى سيرة ومسيرة الكرد بدءًا من الصفات الشخصية مرورًا بالسمات الجماعية وانتهاءً بالقسمات التاريخية. وبإيجاز، الكرد نتاج جبلي بامتياز. وتُعد الجبال مفاتيح الهوية الكردية حتى أضحت متلازمة مع الكرد على جميع الأصعدة.

      ولما لا؟ فقد أسبغت الجبال على الكرد خواص امتلاك إرادة الإقدام والاقتحام، والنزوع إلى البسالة والشجاعة. وقد أسهمت العزلة والمناعة والإكتفاء في المحيط الجبلي في تكوين الشخصية الكردية النازعة إلى التمرد والثورة أكثر من الخضوع والخنوع. ولذا، فلاغرو أن نغص الكرد على الغزاة والفاتحين في تنفيذ مخططاتهم وبلوغ مآربهم بسهولة. وبإختصار، ظل الكرد شوكة، وربما عُقدة، في حلوق أصحاب المشروعات الإمبراطورية – الاستعمارية.

      وبنظرة بانورامية للكرد منذ سقوط الميدية في عام 550ق.م، لوحظ أن الذهنية السياسية الكردية قد نفرت من الإنضواء تحت راية حم مركزي بفعل تأثير ثالوث الجبل – الرعوية – القبيلة. وفي الأغلب، نفر الكرد الجبليون والسهليون من الحكم الفردي المُطلق، ولذا، ثاروا دومًا على الطغاة البغاة المستبدين على نحو ما فعل كاوا الأسطوري وقادة الكرد الميديين في النوروز. ومن المفارقات، اتسم شعب النوروز بأنهم ليسوا من ذوات العقليات المركزية التوسعية الإمبراطورية، ومن ثم، اتسموا بكونهم في الأغلب مدافعين لا مهاجمين، ولم يسعوا إلى نفي أو إقصاء الآخرين جغرافيًا أو قوميًا أو ثقافيًا. إنها خاصية كردية بدأت منذ كاوا ورفاقه ولازالت مستمرة حتى أوجلان ومشروعه الفكري. ولم تتوقف.

      ولكن منذ سقوط ميديا، خسر الكرد مظلتهم الجامعة ومؤسساتهم الضابطة الرابطة، وسلطتهم الموّحدة والقادرة على حماية الإقليم الكردي وثقافاته.

      ولذا، نقص الكرد تكوين خزان خبرة سياسية تراكمية شأن معاصريهم الفرس أو شأن العرب المسلمين والأتراك اللاحقين بعدهم. إنه التناجر بين الكيانات الكردية، وغياب المشروع الفكري والسياسي الأمثل للحقيقة الكردية حتى ظهور المشروع الأوجلاني للسلام ليس للكرد فحسب، بل لمنظومة الشرق الأوسط. وفي العصور الوسطى خلال العصر العباسي الثاني (847-1258م) تأسَّست كيانات سياسية مستقلة وشبه مستقلة حكمتها سلالات كردية. وأسس الأيوبيون الكرد دولتهم (1169-1252م) التي امتدت عن جنوب القوقاز شمالاً حتى اليمن جنوبًا، ومن وادي دجلة شرقًا إلى طرابلس الغرب غربًا. ولكن لم يستثمر الكرد هذه النجاحات في تكوين اتحاد كردي مركزي قوي.

      وهنا، يُعد النوروز من الآليات الناعمة التي اتفق عليها العقل الجمعي الكردي في كل زمان ومكان سواء كان للكرد ممالك وإمارات ودويلات أو حتى مقسمين بالقوة بين دول مصطنعة (تركيا، إيران، العراق، سورية) ويُشكلون جاليات عبر دول العالم.

الوجدان الكردي

ورغم أن جغرافيا الكرد قد أكبستهم خشونة وقسوة ظاهرية، فقد اتصف جُل الكرد بمزاج وسلوك مرحين وحس مرهف على نحو ما يتجلى بالاحتفالات النوروزية. وفي كلمة، يُعد الغناء والرقص بمثابة سلوى حقيقية لمتعة الكرد. ومنذ انتصارات كاوا والميديين وما تداعي عنهما حتى اليوم، يُؤدى الكرد الغناء والرقص جماعيًا على شكل فرق متناوبة، ويتبوأ أهمية كبرى في حياتهم. وقد تطوَّرت القصائد الشعبية الكردية كثيرًا وبلغت حد الكمال؛ إذ استعرضت أبطال الكرد الأسطوريين والقدماء المحاربين، وكذا، الحب والفراق وآلامهما. ودارت الأغاني الكردية غير الدينية حول العواطف والبطولات.

      ومنذ تكوين جينات الهوية الكردية في مجدها القديم زمن الميدية وتوابعها، اتسمت الأغاني الكردية عمومًا وفي احتفالات النوروز الكرنفالية خصوصًا بتكريس الفروسية التي يتحلى ويتجلى بها الكرد. ويبدو أن ثراء الغناء الكردي نجم عن تشبث الكرد بأصالتهم وعاداتهم وتقاليدهم الدينية والشعبية رغم اعتناق معظمهم بالإسلام السُني. وامتاز الرقص الكردي الذي يُمارسه الكرد في الوطن الأم المُستعمر والمحتل وعلى امتداد المهجر الكردي في عيد النوروز مثلاً بخصوصيات جد ملحوظة؛ إذ أنه لا يُؤدى فرديًا أو ثنائيًا، ويبدأ بتكوين حلقة غير كاملة، ويقوم الراقصون بحركات قليلة وخفيفة، وتكون الحلقة مجتمعة في حركة ناعمة ومتموَّجة، وتهتز على إيقاع الموسيقى. وعندما برقص المقاتل الكردي، يُقّدم عرضًا شاعريًا ورومانسيا يتناسب مع هيئته وهيبته.

      وفي رحم النوروز، وُلدت ونمت وتطورت الذهنية الكردية؛ إذ اتسم العقل الكردي بخصائص التفكير الفاعل. ولا غرو؛ فإنه جرئ اقتحامي، ينزع إلى الواقعية، قادر على المعرفة العلمية والأدبية والفلسفية، حيوي ديناميكي، منظم، تفسيري، قادر على التفاعل وليس الانفعال فقط، قادر على التَّغيير والتجديد والإبداع، نازع إلى التمرد والثورة، قادر على الإسهام الحضاري وتقدم البشرية. ورغم هذا، عانى الكرد في تاريخهم الطويل وامتداداتهم الجغرافية والبشرية من مشروعات القمع والتجهيل والصهر، والأدهى، مشروعات التطهير العرقي والإبادة الجماعية. بيد أنهم لم يخنعوا ولم يخضعوا، وظلوا يغنون ويرقصون ويبدعون بلغتهم الكردية في كل نوروز دون توقف سرًا وعلانية.

ألوان النوروز

      ويكشف كرنفال النوروز الكردي عن جماليات الألوان ودلالاتها؛ إذ تتسم الألوان بتنوعها وإشراقها، مما يرتبط بالبيئة الجبلية والثقافة خاصة الميثولوجيا. وحيثما ترنو ببصرك في البيئة الكردية تجد في المرمى حشدًا من التنوُّع في الأشكال والألوان، لاسيما مع بداية الربيع (النوروز)، ولا تقع تحت وطأة القتامة والشعور بالرتابة والجمود. وتكمن النزعة الإشراقية المتجذرة في الأساطير الكردية متمثلة في الطبيعة: شمس، نجوم، جبال، سهول، أنهار، أشجار، أزهار، أو متجسدة في البنى النفسية والأخلاقية: سعادة، فرح، فكر طيب، قول طيب، عمل طيب.

      وثمة ثلاث ظواهر مثيرة في جماليات اللون عند الكرد: كراهية اللون الأسود، كراهية اللون الأزرق، الإرتباط الحميم بين الأبيض والأصفر. وفي الميثولوجيا الكردية تقبيح السواد (ورمزه أهريمان) مقابل تحبيب البياض (ورمزه الإله أهورا مازدا). والأرزاق باعث على الكآبة في النفس وقاتم وقابض، ولا يُلبى نزوع الكردي جماليًا إلى الإشراق والبهجة. ولاريب أن تفاعل الأبيض والأصفر ينتج عنهما أروع تجليات الضياء والنورانية. وبإيجاز، تتسم الميثولوجيا الكردية بأنها نورانية، رمزها القدسي الأسمى هو الشمس، ولا مكان فيها للظلمة (السواد).

      وتتسم زهرة النرجس بأوراقها البيضاء وبالصفرة في وسطها، وتمثل تفاعل لونيّ الأبيض والأصفر. ولذا، فإنها جديرة بأن تكون الزهرة الرمزية للكرد. وثمة أزهار النرجس تكتسي الجبال الكردية مع حلول النوروز. إنه التراث الكردي المتجذر جلالاً في الجبال وجمالاً في النرجس. وقد ألقى تعلّق الروح الكردية بالتنوُّع اللوني المشرق ظلاله على الرموز الوطنية كما في الرايات الكردية: إجتماع ألوان إشراق النوروز وهي الأحمر والأبيض والأصفر والأخضر مع رمزية الشمس في الميثولوجيا الكردية. وقد ارتبط بالنوروز ارتداء الملابس الفلكلورية الملونة الباهية الزاهية.

تواترات النوروز

      ولعل أمير الشعراء الكرد أحمدي خان (مم وزين) قد شخّص وبلور أم آفات الكرد بامتياز: " إنني حائر في المصير الذي خصصه الله للكرد ... هؤلاء الذين بلغوا المجد بسيوفهم، كيف يصح منعهم من حكم أنفسهم بأنفسهم وإخضاعهم لسلطة الآخرين ... إننا متفرقون دومًا وعلى خلاف فيما بيننا، ولا يخضع الواحد منا للآخر.. أما إذا اتحدنا جميعًا، فلن يستطع هؤلاء الوقوف في وجهنا".

      صدق أحمدي خان، وإن افتقر الكرد الاتحاد السياسي، فإنهم بلا استثناء اتحدوا في النوروز بنفس التقاليد والعادات وطقوس الاحتفالات: مسلميهم بسنتهم وشيعتهم ومسيحييهم ويهودييهم، وكذا، الجماعات الزرادشتية والإيزيدية والكاكائية وما على شاكلتهم.إذن، فالنوروز اتحاد كردي وطني قومي نادر المثال في رمزيته واستمراريته والتشبث به دليلاً على الديمومة الكردية.

      وإبان حكم الخليفة عمر بن الخطاب ألغى الاحتفال بالنوروز وألغي راية كاوا وقطع شجرة زرادشت حتى لا تغدوا مزارًا. وإبان حكم الأسرة الأموية، ألغى الخليفة عمر بن عبد العزيز الاحتفال بالنوروز. ورغم ما فعله العمران، فقد احتفى آل العباس بالنوروز، وكذا الفواطم في مصر. وقد احتفلت جميع الإمارات الكردية في العصر العباسي الثاني بالنوروز من أمثال الدوستكية والأيوبية والزندية وغيرها.وبينما لم تنقطع احتفالات النوروز في شرق كردستان، احتفل الكرد في الإمارات المستقلة وشبه المستقلة في كردستان الغربية الواقعة تحت العباءة العثمانية منذ مطلع القرن السادس عشر وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولكن تراجعت الاحتفالات منذ نهاية عصر الإمارات الكردية وتصاعد المركزية الإدارية على كردستان وتنامي القومية التركية الشوفينية المتطرفة الإقصائية.

 

 

النوروز في المشروع الأوجلاني

      وبعد صراع وجودي كردي مع الأنظمة الفاشية الطورانية – الدينية والفارسية والعروبية، عاد الاحتفال بالنوروز. في شمال كردستان وغربها بإشعال النيران على قمم الجبال وسرًا في البيوت. ورغم تضييق الأنظمة السابقة على الكرد على خلفية الاحتفاء بالنوروز وسجنهم وقمعهم خشية تأجيج الروح الكردية القومية الجمعية، فإن الكرد ازدادوا تشبثًا بنوروزهم الذي عدوه عمودهم الفقري. ولذا، انصاع النظامان العراقي والسوري إلى الرغبة الكردية العارمة، وارتضوا الاحتفاء بالنوروز تحت مسمى "عيد الربيع" أو " عيد الشجرة".

ومع الحراك السياسي والثقافي الذي أفرز حزب العمال الكردستاني بزعامة القائد والمفكر عبد الله أوجلان، اتخذ النوروز مسارًا جديدًا لاسيما منذ 15 أغسطس – آب 1984م. ومع الأوجلانية، بدأ مفهوم عصري جديد لعيد النوروز مرتكزًا على الإرث النضالي للشعب الكردي لاسيما إبان العهد الميدي، تجلت في مقاومات الكوادر التقدمية للحزب وعلى رأسهم مظلوم دوغان الذي نال لقب "كاوا العصر" وشعاره المألوف "المقاومة حياة". وقد فقد حياته في سجن آمد – ديار بكر في نوروز 1982، وأصبح قدوة للكوادر الأبوجية، وتحوَّل السجن إلى مدرسة لتجسيد فكر الفيلسوف أوجلان بأساليب متنوَّعة من قبيل الإضراب عن الطعام حتى الموت (مجموعة كمال، خيري، علي)، والافتداء حرقًا (مجموعة فرهاد كورتاي).

      وهكذا، اتخذ PKK على عاتقه القيام بحملة كبرى تشمل النواحي الأيديولوجية والتنظيمية والعسكرية مع نوروز كل عام تجسيدًا لثقافة وتقاليد الكرد. وبعد المؤتمر الثالث للحزب (1997م)، تم تنظيم الحملات بشكل مدروس ومنظم مع قدوم كل نوروز جديد تحت إشراف القائد آبو بدءًا من مسيرة الحرية" التي تُوجت عام 1990م وأسفرت عن انتفاضة جزيرة بوتان بقيادة الشهيدة بنقش (بريفان) تبعتها الشهيدة زكية ألكان عندما أضرمت النار بجسدها في مدينة آمد- ديار بكر استنكارًا لممارسات النظام التركي في منع الاحتفال بالنوروز.

      واستمرت الحملات دونما انقطاع مع كل نوروز وكان أعظمها على الإطلاق نوروز 2013 عندما وجه القائد والمفكر عبد الله أوجلان من مقر معتقله بإمرالي رسالة السلام المشهورة إلى الدولة التركية، وإلى الشعبين الكردي والتركي والعالم أجمع داعيًا فيها إلى السلام في كردستان وتركيا والشرق الأوسط.

      ولم يتوقف أوجلان عن إرسال رسائل السلام – إلى الأنظمة الحاكمة والشعوب والمنظمات الدولية بغية تحرير الشعب الكردي ونيل حقوقه التاريخية المشروعة، وكان آخرها دعوة السلام والمجتمع الديمقراطي في أجواء نوروز 2025. وحسب النص الأوجلاني: " إن احترام الهوية، وحرية التعبير، والتنظيم الديمقراطي، وبناء الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل فئة وفقًا لأسسها الخاصة، لا يُمكن أن يتحقق إلا بوجود مجتمع ديمقراطي ومساحة سياسية ديمقراطية". وأردف العم أبو بان تحقيق الاستمرارية الدائمة والأخوية، لن تتوَّج إلا بالديمقراطية، فلا يوجد طريق آخر غيرها في البحث عن أنظمة جديدة وتحقيقها. فالطريقة المثلى هي " التوافق الديمقراطي". وقد ظل الكرد منذ كاوا حتى الآن رافعين هذه الأنشودة:

                        نحن أبناء الأحزان

                        ولن يوقفنا أي اعتداء

                        لأننا نحن الكرد لدينا إرادة حياة

                        ولدينا عزيمة البقاء

                        ويبقى النوروز متوهجًا بالنيران

                        رمزًا خالدًا لانتصاراتنا.

 

مــراجـــع المقـــال

  1. د. أحمد محمود الخليل: الشخصية الكردية، أربيل 2013.
  2. باسيلي نيكيتين: الكرد: دار الساقي، لبنان، 2001
  3. توماس بوا: تاريخ الأكراد، ترجمة: محمد تيسير ميرخان، دار الفكر المعاصر، دمشق، 2001.
  4. د. جمال رشيد أحمد و د. فوزي رشيد: تأريخ الكرد القديم، أربيل، 1990م.
  5. عبد الله خليل قره مان: وطن الشمس، الجزء الأول، نفرتيتي للنشر والدراسات، القاهرة. 2021.

 

المصدر: مركز آتون للدراسات

قد يهمك