بقي مفهوم الإستقلال قضية شائكة داخل أروقة الفكر اليوناني حيث رفض أفلاطون كل إتجاه مستقل معتبراً أنها أكثر الشرور ورفض بركيلس زعيم الديمقراطية اليونانية واعتبر أن المستقل عن شؤون الجماعة غير جدير بالإحترام وبالمجمل فإن الأس الميتافيزيقي للديمقراطية اليونانية كانت المشاركة داخل الجماعة. ترى حنا أرندت أن اليونان فرقوا بين أن يحيا الإنسان وأن يعيش فأن يعيش الإنسان باعتباره عضواً في الجماعة معناه امتلاك موهبة المشترك، وأن يحيا فذلك يعني الإستقلال أي مجرد الحياة وهو مشترك مع الحيوان أما العيش فهي خصوصية بشرية لذلك تقول أرندت تكملة لهذه الفكرة أن الرومان فرقوا بين أن تعيش بمعنى أن تكون بين البشر وأن تموت أي أن تكفّ أن تكون بين البشر، لم يخض اليونانيون أي تجربة سياسية إلا بعد مخاضٍ سيسيولوجي أي بعد إنشاء مقدمات اجتماعية فالدولة المدينة والنظام اللامركزي اليوناني في مجملها إنما كانت مفاهيم سياسية بعدية لتفكير يوناني قبلي فلسفي وسيسيولوجي وبالتالي فإن اليونانيين نظروا بعين الإزدراء إلى كل من يستقل بنفسه وعلى هذا رفضوا مفهوم إنشاء الدولة المستقلة أو كياناتٍ نائية بنفسها واعتبروها ضمن الأنظمة الشمولية وانتقدوها ومن ثم صنفوها من جملة الإنتماءات التافهة.
في الزمن المعاصر سيعاد إنتقاد مفهوم الإستقلال على يد الفلاسفة الجماعويين أمثال تايلور زانديل ماكليناتور فبالنسبة لزانديل فالخاصية الأساسية للذات الأخلاقية هي في كثرتها فالحياة تمارس كما يدّعي زانديل بين فاعلين تكون كثرتهم سابقة على اتحاد المصالح التي يسعون إلى تحقيقها عبر هذا التعاون. ولكن بقيت مجادلات الجماعويين من أفلاطون إلى زانديل مسار شك فالمنتقدين على الضفة الأخرى رأوا في الجماعة وعداً للإستبداد والفكرة الواحدة التي لم ينكرها نبي الجماعويين أفلاطون، تيقن الجماعويين لمخاطر الجماعة الواحدة واعتبروا أن السيطرة تحمل معها جرثومة الديكتاتورية وبالمقابل فإن الإستقلال التام هو جزءٌ من صيغة ظلامية تنتهي دائماً بإنتاج اللون الواحد سواءً كانت هوية واحدة أو أيديولوجية واحدة لتسقط في ما نعت به الجماعويون الإستبداد. أمام هذين المسارين الإستقلال والجماعة سيظهر تيار يبني نفسه على مبدأ الخصوصية ويؤسس لرعاية الذات بعيداً عن سلطة الآخر معتمدين على نمط اللامركزيات المعاشة لدى اليونان فهم برأيهم أن اليونان عندما اقترحت هذا النمط من الوجود السياسي إنما أرادت أن تخفف من عبء الجماعة وقبح الإستقلال.
إن الخصوصية هي قدرتك على أن تمارس نفسك بكل حرية داخل الجماعة التي تمنحك هذه المساحة وعلى المستوى السياسي هي قدرة جماعةٍ ماعلى أن تؤسس لحضور خاص بها داخل عالم يشارك بها مع الآخر هذا النمط أرّخ له وتفلسف حوله فيلسوف ألمانيا هايدغر ليقول إن نمط الحضور داخل العالم يتطلب من الإنسان أن يتمتع بالخصوصية "الخاصياتي" واعتبرها تفرقة بشرية تفرد بها الإنسان فالحيوانات لا تمتلك خصوصية قد تستقل ولكن ليست لخصوصية وإنما لتحيا وهنا يبدو الربط بين العيش والخصوصية والجماعة وبين الحياة والإستقلال والموت ربطٌ لا بأس به فالإستقلال هو نوع من الموت، دائماً ما مورست الخصوصية بعيداً عن الإستقلال فهناك خط رفيع بين المفهومين لذلك فرق هايدغر في عمدة كتبه (الكينونة والزمن) بين رعاية الذات وهي القدرة على ممارسة ذاتك داخل فضاء الجماعة وبين السيطرة على الذات وهي من مطالب الإستقلال. لذلك كانت الدول دائماً نمطاً مضاداً من الخصوصية ومن ثم وُجب لممارسة الخصوصية داخل الشعوب شطب الدولة من أفق الجماعة ولكن سؤال هل من الممكن أن نشاهد دولة محذوفة أي أن نلغي تواجد الدولة.
في سياق شبيه بهذا المُشكل يطرح فيلسوف الكنيسة الفرنسي جان لوك ماريو حول سؤال الجدل بشأن وجود الله من عدمه ليرد بأقصى الأسئلة راديكالية حول هذه المجادلة، لينتهي قائلاً هل الله بحاجة إلى الوجود؟ أي أننا نبدأ مما سماه أرسطو (المصادرة على المطلوب) فمن قال أن الله يحتاج إلى الوجود ليؤسس حضوره ولينتقل ماريو إلى القول إن الله لا يحتاج إلى الوجود بل إلى المحبة. سيستخدم أوجلان نفس هذا التساؤل حول أهمية وجود الدولة فباعتقاده أن هذا الشرق لم يكلّف نفسه عناء محاكمة بديهياته بل تجاوز ذلك إلى حد إعتبار هذه البديهيات كياناً راسخاُ لا يجوز نده أو تحويره، وبنكهة أوجلانية لم يعاود هذا الشرق كرّة إعادة أسئلته الكبرى فهل نحن بحاجة إلى دولة؟, لينتهي إلى القول أننا بحاجة إلى أن ننتقل إلى الضفة الأخرى من الإنتماء وأنه آن الأوان لنحذف هذه الدولة داخل ذواتنا ونقترح بدائل أنطولوجية أخرى .
يقترح أوجلان ما يسميه بالإدارة الذاتية والسؤال ماالمقصود بهذا المشروع؟ دائماً ما كان لدينا ضعفٌ نظري حول مشروع أوجلان وتسرع في الإدراك وهذا ما يضعنا في خلل أبستيمولوجي إننا نردد هذا المشروع داخل إطار المشاريع اللامركزية المتوفرة لدينا ضمن العالم المسمى بالواقعية السياسية وبمعنى أننا نستدعي مشروع الإدارة الذاتية باعتباره يأتي في أسفل المشاريع اللامركزية الأخرى الحكم الذاتي الفيدرالية والدولة وهنا تكمن مشكلة فاهمتنا إن الإدارة الذاتية لا ترتب نفسها داخل هذه البرامج سواء الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الدولة وكل تفكير بهذا المشروع بجانب المشاريع اللامركزية الأخرى هي انتهاك لجمالية هذا الطرح ومن ثم فإذا كان الكلام على هذا المنوال فما هو مشروع الإدارة الذاتية؟ يبدو أننا لا نستطيع شرح هذا الإقتراح الأوجلاني إلا بعد أن نفكك إحدى فلاسفة الحداثة وأقصد هنا إمانويل كانط في كتابه "نقد العقل المحض" يعتقد كانط أن هناك خارطة وحدوداً للعقل البشري لا يستطيع تجاوزه مهما حاول وهو إن تجاوزه يقع في خطر أبستمولوجي وينتهي إلى أن البشرية بحسب طبيعتها غير قادرة على المعرفة الكلية بجميع الأمور ومن ثم فإن لدينا حدوداً ونحن لا نستطيع أن نتجاوز هذه الحدود أبستمولوجياً والحل الوحيد للقفز على هذه الحدود هي من خلال فتح مجال الإعتقاد أي الإيمان وهذا يدخل تحت بند الحلم أنت تستطيع أن تفكر بالله كما تريد ولكن هذا لا يخولك إثبات وجوده، والطريقة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هي في تحويل الله إلى اللغة الإعتقادية، وأي خروج من هذه اللغة يعني تحويل الله إلى قوةٍ وقانونٍ مطلق يشرعن الإستبداد بهذه النغمة رسم كانط جغرافية لعقولنا. بالنسبة إلى أوجلان سيرسم بريشته ضبطاً لأحلامنا التي إذا لم نحدّها ستتحول إلى كابوس والتاريخ الكردي شاهد على أن حلم الدولة الكردية كانت ولا تزال تمثل أكبر كابوساً دفع الكورد ثمنه باهظاً فهناك إذاً خطراً أنطولوجياً يهدد أولئك الحالمين بالدولة يريد أوجلان أن يمارس نوعاً من الضبط وحدّاً على الطموح الرديء لشعوب الشرق الأوسط وخاصة الكرد لإنشاء الدولة أي أنه يرى أن الشعوب باتت فيما بعد الدولة بشكل جذري ومن ثم فأي استدعاءٍ لمفهوم الدولة سيوقع الشعوب في فوضى إنتمائية أي أن ننتمي إلى دولة عفت نفسها من إمكانية أن تعدنا بشيء.هذا الحد الأوجلاني الذي سيمارسه داخل السيسيولوجيا سيجعلنا نصل إلى حقوقنا أي ممارسة أنفسنا المتحررة بطريقة أخرى أي على الضفة الأخرى بعيدة عن الدولة والحكم الذاتي والفيدرالية.
هذا من حيث السبب أما المضمون الحركي للإدارة الذاتية فإن أوجلان يؤمن أن الشرق الأوسط من جملة الشعوب المصابة في مجتمعاتها وليس في سياساتها بمعنى أن أوجلان يعتقد أن ما يحتاج إليه الشرق الأوسط ليس تقديم مشروع سياسي من أمثلة الحكم الذاتي-الفيدرالية-الدولة وإنما يحتاج إلى إعادة صبغةٍ سيسيولوجية فالشرق مصاب بمجتمعه أي يحتاج إلى إعادة اللحمة الإجتماعية ودعنا نأخذ الحالة الساخنة في الشرق الأوسط وهنا نقصد سوريا فالمكونات السورية لا تحتاج إلى مشاريع سياسية داخلة ضمن ثرثرات أخلاقية فهي لن تدرّ لبناً ما يريده هذا الشعب هو نموذجاً سيسيولوجياً تستطيع أن تجد ذواتها فيها وهذا يعني أن مشاريع الفيدرالية والحكم الذاتي والدولة في أفضل مآلاتها هي داخلة ضمن تعقيد المشكلة فالفيدرالية الكردية أو الدرزية أو العلوية لن تحل المشكلة بقدر ما ستعقده حيث سيحول المظلوم إلى مستبد لنشاهد تفريخاً لاستبداداتٍ أخرى وهنا يأتي دور الإدراة الذاتية باعتبارها تستطيع أن تعيد اللحمة داخل الجماعات المفككة وبكرّة واحدة أن مشروع الإدارة الذاتية هو مشروع سيسيولوجي أما المشاريع الأخرى فهي سياسية جغرافية حيث تلعب الجغرافيا أكبر أدوارها في هذه المشاريع باستثناء الإدارة الذاتية التي تستطيع الممارسة بغض النظر عن الموقع الجغرافي فهو لا يرتبط بالعرق أو الهوية أو الجغرافية إن هذا البرنامج هو دائماً وفي كل مرة إفلات من ربقة الدولة القومية أو الفيدرالية العرقية إنه برنامج لإمكان إنشاء وطن من دون جغرافية أوهوية أو أيديولوجيا. إنها فلسفة فالكردي والعلوي والسني والدرزي لا ينتمي إلى وطن أيديولوجي إنه ينتمي إلى راهنٍ و عصرٍ يقترح نوعاً من العالم. إذا فإن عصر الميتات لم ينتهي بعد ويبدو أننا في هذا الراهن سنشهد قتل غول آخر مات الإله على يد نيتشه ومات الإنسان على يد فوكو والدولة تلفظ آخر أنفاسها على يد أوجلان ومن ثم سيبدو مشروع الإدارة الذاتية بمثابة الحضور الذي سيشطب الدولة من أفق الإنسانية لنعاود السؤال الأوجلاني هل نحن بحاجةٍ إلى الدولة أم إلى الصداقة داخل نادي الإنسانية .