بث تجريبي

في ذكرى الإبادة.. ندوة بالقاهرة حول القضية الأرمنية في فكر عبدالله أوجلان

بحضور نخبة من المثقفين والكتاب والسياسيين والصحفيين، عقدت الهيئة الوطنية الأرمنية في مصر ندوة، أمس الجمعة، تحت عنوان القضية الأرمنية في فكر الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، بمناسبة الذكرى 110 للإبادة الأرمنية التي وقعت في 25 أبريل/نيسان 1915 على يد العثمانيين، وقد حاضر فيها الأستاذ الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، وأدارها كرم سعيد الخبير السياسي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

وشهدت الندوة إشادات واسعة من قبل المشاركين بفلسفة المفكر الأممي عبدالله أوجلان، التي تقوم على فكرة العيش المشترك والتسامح بين مختلف الشعوب والمكونات، بل يمكن وصفه بأنه "أحد الآباء المؤسسين لثقافة التسامح"، بما قدم من أفكار للتحول نحو الديمقراطية وإقامة المجتمع الديمقراطي، وقد جاء نداء السلام الذي طرحه مؤخراً ليعبر عن توجهاته الإنسانية، وفق ما جاء في الندوة من تصريحات.

موضوع في توقيت حساس

وقبل بداية الندوة، أبدى أرمن مظلوميان رئيس الهيئة الوطنية الأرمنية في مصر إعجابه باختيار موضوع مثل رؤية أوجلان للقضية الآرمنية، معتبراُ أنه "خارج الصندوق"، الأمر الذي اتفق فيه معه مقدم الندوة الخبير السياسي كرم سعيد، والذي قال إنها إلى جانب ذلك تأتي في توقيت مهم وحساس، فعلى المستوى الأرمني نحن أمام الذكرى المعهودة لإبادة الأرمن على أيدي العثمانيين، وعلى المستوى الكردي تأتي في ظروف غير مسبوقة وتطورات تتعلق بالمبادرة التي طرحها عبدالله أوجلان من أجل السلام.

وأضاف أن موضوع الندوة يأتي كذلك في ظل إشكاليات داخلية تركية تجاه المسألة الكردية، ليس في الداخل التركي فقط، بل في شمال سوريا والعراق، منوهاً إلى أن الندوة تأتي أيضاً في ظل تطورات كبيرة بالشرق الأوسط منها سقوط النظام السوري، وما للأخير من انعكاسات على القوميات في المنطقة، هذا إلى جانب وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة مرة ثانية، وتغذيته لإعادة بعث الأفكار القومية من جديد، خاصة مع رفعه شعار "أمريكا أولاً"، وهو أمر ينعكس على القوميات في كل دول العالم.

وقبل أن ينقل الكلمة إلى الدكتور محمد رفعت الإمام، أكد كرم سعيد أن أوجلان قائد تاريخي، وله باع طويل في المقاومة ليس ضد الظلم التركي فقط، وإنما ضد التعصب والعنف الذي يمارس ضد كل المكونات القومية والعرقية والدينية والمجتمعية، منوهاً إلى أن أوجلان لديه رؤية معينة فيما يتعلق بالأرمن؛ إذ يرى أنهم ضحية للفكر العثماني، والمؤامرات الدولية التي قادتها بعض الدول الكبرى، والتي أضرت بقطاع كبير من القوميات في إطار ترسيم الحدود وفق مصالحها.

أوجلان والقضية الأرمنية

وانتقلت الكلمة إلى الأستاذ الدكتور محمد رفعت الإمام ، الذي في داية حديثه أعرب عن شكره للهيئة الوطنية الأرمنية في مصر على تنظيم هذه الندوة، منوهاً إلى أن أبريل/نيسان يحمل العديد من المناسبات الكردية والأرمنية المهمة، ففيه وقعت الإبادة الأرمنية على يد العثمانيين، وفيه ولد المفكر الأممي عبدالله أوجلان، وفيه صدرت أول صحيفة كردية حيث يحيي الكرد عيد الصحافة يوم 22 من هذا الشهر كل عام، وغيرها من الأحداث المهمة.

وبالحدث عن دور عبدالله أوجلان، يقول الدكتور محمد رفعت الإمام إن أوجلان ابن اليسار بامتياز ومفكر حر ومناضل موضوعي، وهو صاحب مشروع سلك فيه طريقاً ميدانياً عبر المقاومة، ثم طريقاً سياسياً من خلال مشروع السلام الأوجلاني في الشرق الأوسط، حيث انطلق من قوميته الكردية وجنسيته التركية نحو رؤية إنسانية، ليضعنا أمام مشروع من أهم المشروعات السياسية والفكرية في القرن العشرين والقرن الحالي حتى الآن.

ويقول الإمام إن أوجلان عندما تناول القضية الأرمنية قدم لها رؤية شاملة وحضارية، وربما كان من أهم من كتبوا عن الإبادة الأرمنية، وتطرق إلى أبعاد لم تتوفر عند غيره ممن تناولوها؛ فقد رد الإبادة إلى نشأة الأمة الأرمنية واعتناقها المسيحية، والتطورات التي توالت بعد ذلك، مضيفاً أن أوجلان اهتم بالهويات وبالذات الهوية الثقافية، وقد أثنى على تشبث الأرمن بهوية مذهبية خاصة بهم وسط صراع ديني ولا ديني، حيث تبنى الأرمن المسيحية، التي قدمت لهم على الأرض أيديولوجية، وفي نفس الوقت حصنتهم ضد التجاذبات أيا كانت.

ويقول أستاذ التاريخ إن أوجلان رأى أن الأرمن لهم وضعية خاصة في المسيحية، فقد امتدح دورهم في توصيل رسالة الإنجيل، وتأسيس الأديرة والعمارة، كما أبدى إعجاباً ملحوظاً بالمقاومة الأرمنية ضد الاستبداد الروماني البيزنطي، ثم الساساني الفارسي، ثم العربي التركي، فهو يعتبرهم أعرق الأعراق والرعيل الأول الذي اعتنق المسيحية إلى جانب السريان والروم.

ولفت إلى أن أوجلان أبدى إعجابه الشديد بالمظهر الحضاري للأرمن، الذي ظهر في عمارة الكنائس التي لعبت في أوقات كثيرة دور الدولة، كما يصف الأرمن بأنهم شعب ملفت للأنظار؛ من حيث عقيدتهم وعمارتهم، إلى جانب إعجابه بالكفاح الأرمني، مشيراً إلى أنه رأى أن تشبث الأرمن بثقافتهم هو الذي حافظ على استمراريتهم إلى يومنا هذا، مستعيناً بمقولة للقائد آبو وصفها بـ"الرائعة" حين قال إن "الثقافة مقاومة".

وحدة المصير التاريخي بين الأرمن والكرد

ينتقل الأستاذ الدكتور محمد رفعت الإمام إلى بعد آخر حول القضية الأرمنية في فكر عبدالله أوجلان، وهو العلاقة بين الشعبين الكردي والأرمني، إذ تحدث عن وحدة المصير التاريخي بينهما، وهم لديه أقدم الأجيال المستمرة منذ ظهور البشرية إلى يومنا هذا، كما أن الشعبين استطاعا الحفاظ على استمراريتهما، ورغم أن الأرمن مسيحيين والكرد كانوا زرادشتيين ثم مسلمين فإن التلاق ظل بينهما.

ويلفت الإمام إلى أن أوجلان تحدث بمرارة عن تعرض الأرمن للإبادة الجماعية، وعمل على تفسير وقوعها، فقدم تفسيراً عبقرياً حين ربط بين دور الأرمن كأعرق الأعراق المقدسة في المنطقة، وبين ما حدث لهم على أياد الأتراك، ويقول إن الأرمن اتخذوا من المسيحية ما يمكن تسميته "مصلاً" لتحصين هويتهم، فقد اعتنق الأتراك الإسلام وحولوه إلى هوية جذرية، ومن ثم فإن ما حدث كان صداماً بين هويتين إحداهما تعود للقرن الثالث الميلادي (الأرمن)، وأخرى تعود إلى القرن العاشر (الأتراك عندما اعتنقوا الإسلام)، وكان هذا هو الخيط الأول لديه في تفسير الإبادة.

ويواصل أستاذ التاريخ حديثه عن تفسير أوجلان لأسباب وقوع الإبادة الأرمنية، ويتطرق إلى عامل آخر يتعلق بدور اليهود، الذين استقبلتهم الدولة العثمانية مع غيرهم من المسلمين الذين فروا من بلاد الأندلس عندما سقط حكم المسلمين هناك، حيث جاءت الإبادة في إطار الصراع بين النفوذ المالي اليهودي في مواجهة النفوذ المالي الأرمني.

فرق تسد

ويقول الدكتور محمد رفعت الإمام إن أوجلان تطرق في حديثه عن الأرمن  إلى نقطة عبقرية؛ وهي أن الغرب عندما أراد تجزئة الشرق الأوسط فقد حوله بهذه التجزئة إلى صحراء سرابية، حيث تحصر أوجلان على ما تعرضت له بعض الشعوب من إبادة مثل الأرمن، ما فتح الطريق أمام تحول الشرق الأوسط عموماً وبلاد الأناضول خاصة إلى صحراء سرابية، وتسبب في فقدان "أرصدة حيوية من الحضارة ورأس المال الحضاري"، وحرمت المنطقة من هذه الشعوب وثقافاتها التي كانت ذات يوم رائدة في المجتمع الشرق أوسطي.

ويلفت إلى أن أوجلان صاحب مبدأ التعايش والإخوة والحقيقة كان يرى أن الأرمن كانوا خير مثال على التعايش السلمي مع الكرد ووحدة المصير التاريخي، موضحاً أن الكرد غالباً ما كانوا متداخلين مع الأرمن في الأناضول، وقد كانوا على المستوى الشعبي والقاعدي متعايشين، فيما كانت الصراعات تقتصر فقط على النخب السياسية، وبعضها ارتبط بالسلطة.

كما يلفت أستاذ التاريخ إلى سياسة "فرق تسد" التي اتبعتها بريطانيا، ووفقاً لها جزأت الدولة العثمانية إلى 22 دولية عربية، وتم ترضية الأتراك بدولة أناضولية، لكن تلك السياسة جعلت أوجلان يصف القرن العشرين بأنه عصر النكبات السياسية الكبرى للشرق الأوسط، فمع تلك التجزئة وجدنا أن هناك كثيراً من الشعوب والقوميات موزعة داخل هذه الدول، أو تمت التجزئة دون مراعاة لحقوق تلك الشعوب، التي تركت تواجه مصائرها بمفردها، ومن ذلك ما تعرضت له من آلية التطهير العرقي، حيث جرت عمليات اجتثات للأرمن وتهجيرهم من أوطانهم الأم وباتوا في أوقات كثيرة يخشون فقدان ثقافتهم أيضاً.

الإبادة الثقافية

ويقول الدكتور محمد رفعت الإمام إن أوجلان كان واضحاً وصريحاً في توصيفه ما جرى للأرمن بأنه إبادة جماعية، وإذا أخذنا في الاعتبار أن مفهوم الإبادة الجماعية حين ظهر عام 1948 كان مفهوماً قانونياً يهدف إلى محاسبة المسؤولين عن مثل هذا النوع من الجرائم وإنزال الأحكام عليهم، إلا أن الزعيم الكردي كان ما يعنيه أكثر الإبادة الثقافية، إذ يقول إن الإبادة المادية هي الأقل خطراً، لكن الأخطر هي الإبادة الثقافية، الثقافة التي كانت عصب مقاومة الأرمن إلى يومنا هذا، وعصب استمرارية الكرد كذلك.

ويقول الإمام إن سياسة فرق تسد هي استراتيجية بريطانية، فهي التي كانت تحرك الأرمن ضد الكرد، والكرد ضد الأرمن والترك، والأرمن ضد الترك، وتحرك الترك ضد الكرد والآرمن، ومن ثم رأى أن هذه الأمور تصب في صالح الاستعمار، منوهاً إلى أن أوجلان دائماً ما يرسل رسائله للسلام بشأن قضايا مثل الكردية والأرمنية والفلسطينية، السلام الذي يحل معضلات الشرق الأوسط، وآخرها نداء السلام في فبراير/شباط المنصرم، لا سيما وأنه يتعامل مع كافة المكونات في المنطقة على أنهم "كنوز ثقافية".

ختام

وفي ختام الندوة، قال كرم سعيد الخبير السياسي إن ما يجمع بين الآرمن والكرد أكثر مما يفرقهما، مشيراً إلى أنه في السنوات الأخيرة كان هناك حديثاً عن سياسات التسامح وترسيخ ثقافة التسامح، معرباً عن اعتقاده أن القراءة الدقيقة لما طرحه أوجلان تعبر عن أن هذا الرجل أحد الآباء المؤسسين لثقافة التسامح، وهو لاعب رئيسي في إفشائها في عالمنا، وأن أفكاره عن السلام والتعايش ونشر ثقافة التسامح تحتاج إلى مزيد من التحليل.

 

قد يهمك