أطفال بلا مأوى.. مأساة حقوقية تُهدد استقرار فرنسا الاجتماعي

في قلب فرنسا، وتحت ظلال المدنية الحديثة التي تجسد قيم الحرية والمساواة، يقبع أكثر من ألفي طفل بلا مأوى، يواجهون قسوة الحياة في شوارع المدن الكبرى، حيث يُتركون لمواجهة البرد والخوف والضياع، محرومين من حقهم الأساسي في العيش بكرامة. 

هذا الواقع المأساوي الذي أزاحت الستار عنه منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف» في باريس، يمثل جرحاً نازفاً في ضمير المجتمع الفرنسي، الذي يفتخر بتاريخ طويل من الدفاع عن حقوق الإنسان.     

وعبرت ممثلة اليونيسف في فرنسا أديلين هازان، بوضوح عن استيائها العميق من هذا الوضع المؤلم، مؤكدة أن المجتمع الفرنسي يقف على حافة انتهاك صارخ لحقوق الأطفال التي كفلتها الاتفاقيات الدولية، هازان أشارت إلى أن "الوضع غير مقبول على الإطلاق"، مُنتقدةً تعامل المجتمع الفرنسي مع أطفاله بهذه الطريقة، ما يعكس تخلي فرنسا عن التزاماتها الحقوقية تجاه الأطفال.

الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي تعد من أهم الاتفاقيات الدولية المعنية بحماية حقوق الأطفال، كانت تهدف إلى ضمان توفير حياة كريمة لكل طفل ومع ذلك، يبدو أن فرنسا، التي لطالما تباهت بدورها الرائد في الدفاع عن حقوق الإنسان، تبتعد تدريجيًا عن تحقيق هذا الهدف، حيث يعيش آلاف الأطفال في الشوارع، معرضين لمخاطر جسيمة تهدد سلامتهم وصحتهم النفسية والجسدية.

هازان لم تكتفِ بالتعبير عن استيائها، بل أعربت عن قلقها الشديد إزاء تفاقم هذا الوضع عامًا بعد عام، فقد أكدت أن "الوضع يزداد سوءًا من سنة إلى أخرى، مما يشكل مأساة حقيقية تؤثر على الصحة العقلية والتعليم لهؤلاء الأطفال"، فالأطفال الذين يعيشون في الشوارع ليسوا محرومين فقط من الأمان والمأوى، بل يُحرمون أيضًا من حقوقهم الأساسية في التعليم والصحة، مما يعرض مستقبلهم لخطر دائم.

التقارير التي قدمتها اليونيسف تكشف عن أرقام مروعة: في ليلة 20 أغسطس 2023، تم إحصاء 2043 طفلًا على الأقل، من بينهم 467 طفلًا دون سن الثالثة، لم يتمكنوا من العثور على مأوى رغم اتصالات أسرهم بالرقم 115، وهو رقم الطوارئ المخصص للمشردين. 

ورغم أن هذا الرقم أقل من 3 آلاف طفل تم تسجيلهم في أكتوبر 2023، فإنه يعكس زيادة مستمرة في عدد الأطفال المشردين، بنسبة 3% مقارنة بأغسطس 2023، و27% مقارنة بعام 2022، و120% مقارنة بعام 2020.

ومع ذلك، تؤكد اليونيسف واتحاد الفاعلين المتضامنين مع أطفال الشوارع أن هذه الأرقام لا تعكس حجم المشكلة بالكامل فالكثير من الأطفال الذين توقفوا عن الاتصال بالرقم 115، أو الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة، أو القاصرين غير المصحوبين بذويهم، يظلون خارج نطاق هذه الإحصاءات، مما يعني أن العدد الفعلي للأطفال المشردين قد يكون أكبر بكثير.

الأزمة التي يواجهها أطفال الشوارع في فرنسا ليست وليدة اليوم، لكنها وصلت إلى ذروتها هذا الصيف، خاصة في ليون، ثالث أكبر مدن فرنسا هناك، واجهت العديد من النساء مع أطفالهن حديثي الولادة ظروفًا صعبة للغاية بعد أن وجدن أنفسهن بلا مأوى. 

هذه الأزمة تكشف عن فشل كبير في السياسات الاجتماعية والحكومية، والتي تبدو عاجزة عن توفير الحماية والرعاية اللازمة لهؤلاء الأطفال، الذين هم بأمسّ الحاجة إليها.

هذا الواقع المأساوي يطرح أسئلة ملحة حول مستقبل هؤلاء الأطفال وكيف يمكن لهم أن يعيشوا حياة كريمة في ظل هذه الظروف القاسية، فكيف يمكن لأطفال الشوارع أن يكبروا ويندمجوا في المجتمع بشكل سليم وهم يواجهون يوميًا مخاطر الجوع والبرد والإهمال؟ كيف يمكن لهم أن يحلموا بمستقبل أفضل وهم يعيشون في شوارع مهجورة، بعيدين عن حضن الأمان الأسري؟

ويرى حقوقيون، أن المجتمع الفرنسي بأسره يجب أن يتحمل المسؤولية في مواجهة هذه الأزمة، فالفشل في حماية هؤلاء الأطفال لا يعني فقط انتهاك حقوقهم، بل يهدد مستقبل المجتمع الفرنسي ككل هؤلاء الأطفال، الذين يُفترض أن يكونوا جزءًا من نسيج المجتمع الفرنسي، يعانون الآن في شوارع المدن الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وإذا استمر هذا الوضع دون حلول جذرية وفورية، فإن المجتمع الفرنسي سيواجه جيلاً من الأطفال الذين عاشوا طفولةً قاسيةً، مما ينعكس سلبًا على مستقبل البلاد بأسره.

الحكومة الفرنسية، بوصفها الطرف الأكثر مسؤولية، يجب أن تتحرك بسرعة لإيجاد حلول فعالة ودائمة لهذه الأزمة، ويجب أن تكون هناك سياسات جديدة تضمن حصول كل طفل في فرنسا على المأوى والحماية والرعاية التي يستحقها. فحقوق الإنسان لا يمكن أن تكون مجرد شعارات إذا لم تُترجم إلى أفعال على أرض الواقع، خاصة عندما يتعلق الأمر بحقوق الأطفال، التي يجب أن تكون أولوية قصوى.

وأوصت تقارير المجتمع المدني أن يلعب دورًا حاسمًا في هذه المعركة، موضحة ضرورة أن يكون هناك وعي أكبر بالمشكلة وتحرك شعبي مستمر للضغط على السلطات لضمان توفير الحماية والرعاية اللازمة لهؤلاء الأطفال، هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد أرقام في تقارير إحصائية؛ هم بشر لهم أحلام وطموحات، ولهم الحق في حياة كريمة ومستقبل مشرق.

خلال العقد الأخير، شهدت فرنسا تصاعداً مقلقاً في أزمة الأطفال المشردين، مما يثير قلقاً عميقاً في المجتمع الحقوقي ويضع تساؤلات حول التزام الدولة بحقوق الأطفال. 

في بداية العقد، كان الوضع بالنسبة للأطفال المشردين في فرنسا قد بدأ يلفت الانتباه، إلا أن الزيادة الكبيرة في أعدادهم مع مرور الوقت جعلت من الأزمة قضية ملحة. 

وفقًا لتقارير «اليونيسف» ومنظمات حقوقية أخرى، فإن الأرقام المتعلقة بالأطفال المشردين قد ارتفعت بشكل ملحوظ من عام إلى آخر. 

في أكتوبر 2020، سجلت التقارير ما يقرب من 1,000 طفل يعيشون في الشوارع، وهو عدد ارتفع بشكل دراماتيكي في السنوات التالية. في أغسطس 2023، وصل العدد إلى حوالي 2,000 طفل، مع ملاحظة زيادة بنسبة 120% مقارنة بعام 2020.

لم تقتصر الأزمة على العدد الكلي للأطفال المشردين؛ بل تركزت المخاوف أيضًا على الفئات الأكثر ضعفًا. وفقًا للبيانات الأخيرة، كان من بين هؤلاء الأطفال 467 طفلًا دون سن الثالثة، ما يبرز حجم التأثير السلبي على الأطفال في مراحلهم العمرية المبكرة، والتي تتطلب رعاية وحماية خاصة. هذا الرقم يعكس بوضوح حجم التحديات التي تواجه السياسات الاجتماعية في توفير الأمان لهؤلاء الأطفال.

التقارير تبرز أيضاً أن الأرقام الرسمية قد تكون أقل من الواقع بكثير، حيث إن بعض الأطفال لا يتم تسجيلهم في الإحصاءات بسبب توقفهم عن الاتصال بخط الطوارئ المخصص، أو بسبب عدم ظهورهم في الإحصاءات الرسمية. الأرقام التي تعكس الوضع الفعلي قد تكون أعلى بكثير، وهو ما يتطلب تحركًا عاجلًا ومراقبة دقيقة لمتابعة الوضع بشكل أكثر شفافية.

المعطيات التي تكشف عن الأوضاع المعيشية لهؤلاء الأطفال، بما في ذلك المخاطر الصحية والنفسية التي يتعرضون لها، تُظهر فشلًا واضحًا في تقديم الرعاية المناسبة. الأطفال المشردون يعيشون في ظروف قاسية تؤثر سلبًا على صحتهم الجسدية والعقلية، مما يؤدي إلى عواقب طويلة الأمد على تعليمهم وفرصهم المستقبلية. الدراسات تشير إلى أن هؤلاء الأطفال معرضون بشكل كبير لمشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، فضلاً عن المخاطر الجسدية نتيجة تعرضهم للظروف المناخية القاسية والاعتداءات.

الالتزامات الدولية التي أبرمتها فرنسا في إطار اتفاقية حقوق الطفل تُلزم الدولة بحماية الأطفال وتوفير ظروف ملائمة لنموهم. ولكن، كما يتضح من الأرقام والتقارير، فإن الواقع الحالي يعكس انتهاكًا صارخًا لهذه الحقوق. الأزمة تشير إلى فشل السياسات الحكومية في ضمان حقوق الأطفال الأساسية وتوفير الحماية اللازمة لهم.