في سياق النزاعات المسلحة والاضطرابات العنيفة، يكون من السهل التركيز على الأرقام والأحداث الكبرى، لكن القصة الإنسانية تبقى عالقة في ظلال هذه الصراعات، حيث تترك آثاراً عميقة على النفوس التي تشارك فيها.
وفي حالة الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، نجد أنهم يعيشون حالة من الضغوط النفسية الكبيرة، على الرغم من المشاركة في عمليات قتل فيها الآلاف من الفلسطينيين، هذه المفارقة تكشف عن تعقيدات الحرب وتأثيراتها النفسية العميقة على الفرد.
منذ الهجوم الذي شنته حركة حماس في 7 أكتوبر، شهدت إسرائيل تصاعدًا ملحوظًا في استهلاك المخدرات وزيادة سلوكيات الإدمان بين الجنود والمدنيين على حد سواء، ويبدو أن هؤلاء الذين يشاركون في العمليات العسكرية، والذين يُفترض أنهم في موقع القوة والسيطرة، يجدون أنفسهم محاصرين بمشاعر من الخوف والضياع، مما يدفعهم إلى البحث عن متنفسٍ في المواد المخدرة.
وفقًا لمؤسس المركز الإسرائيلي للإدمان والصحة النفسية الطبيب النفسي شاؤول ليف-ران، فإن "الارتفاع الكبير في تناول مختلف المواد المهدئة المسببة للإدمان هو رد فعل طبيعي على الضغط النفسي وبحث عن الراحة".. هذه الكلمات تعكس مدى الألم الداخلي الذي يعاني منه هؤلاء الجنود، حتى وهم في مواقع قوة عسكرية نسبية.
يتجه الجنود، الذين يتعرضون لضغط نفسي هائل جراء المشاركة في القتال، إلى استخدام المخدرات كوسيلة للهروب من الواقع. وكشفت دراسات أجريت على نحو ألف شخص من مختلف الشرائح السكانية في إسرائيل عن وجود صلة مباشرة بين التعرض غير المباشر لأحداث 7 أكتوبر وارتفاع استهلاك المواد المسببة للإدمان بنسبة 25% هذه الزيادة الملحوظة لا ترتبط فقط بالجنود في الخطوط الأمامية، بل تشمل أيضًا المجتمع الإسرائيلي بشكل أوسع، حيث يعاني المواطنون العاديون من تأثيرات الصراع الذي يخترق حياتهم اليومية.
في الماضي، كان واحد فقط من كل 7 إسرائيليين يعاني من اضطرابات مرتبطة بتعاطي المخدرات، ولكن بعد الأحداث الأخيرة، ارتفع هذا العدد إلى واحد من كل أربعة، وهذا الارتفاع الحاد في الاستهلاك يكشف عن أزمة نفسية تتجاوز أبعاد المعركة الميدانية، لتصبح معركة داخلية يخوضها هؤلاء الجنود والمواطنون مع أنفسهم، الحرب ليست فقط في ميدان المعركة، بل تتسلل إلى داخل النفس البشرية، لتخلق صراعًا داخليًا لا يقل ضراوة عن القتال المسلح.
أحد الأمثلة الحية على ذلك هو يوني، الشاب البالغ من العمر 19 عامًا، الذي بدأ تعاطي المخدرات خلال جائحة كوفيد-19، ومع تصاعد النزاع في غزة، أصبح إدمانه أكثر تعقيدًا، حيث وجد يوني، الذي فقد صديقًا مقربًا له في الهجوم نفسه غارقًا في دوامة من الإدمان كوسيلة للهروب من الألم، إنه يعكس مأساة نفسية يعيشها العديد من الشباب الإسرائيليين الذين يجدون في المخدرات ملاذًا مؤقتًا من واقع قاسٍ.
وعلى الرغم من أن يوني يعرف أنه مدمن، فإنه لا يزال يأمل في تلقي العلاج والعودة إلى الخدمة العسكرية لإثبات قدرته على المساهمة في المجتمع، وهذه الرغبة في الاستعادة الذاتية تعكس الصراع الداخلي الذي يعاني منه العديد من الجنود الإسرائيليين، والذين يجدون أنفسهم محاصرين بين الواجب الوطني والآثار النفسية العميقة التي يتركها القتال في نفوسهم.
من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال تأثير هذه الحرب على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحصار والقصف اليومي، ورغم أن السلطة الفلسطينية لا تمتلك بيانات دقيقة حول الصحة النفسية والإدمان بسبب نقص الموارد، فإنه من المؤكد أن آثار الحرب على النفوس في غزة لا تقل عن تلك التي يعاني منها الجنود الإسرائيليون.
في هذا السياق، نجد أن المجتمع الإسرائيلي يواجه أزمة نفسية حقيقية، تتجلى في الارتفاع الكبير في استهلاك المخدرات وزيادة الاعتماد على المواد المهدئة. وهذه الأزمة ليست مجرد انعكاس للضغوط النفسية الناتجة عن المشاركة في القتال، بل هي أيضًا نتاج لصراع داخلي معقد يجمع بين مشاعر الذنب، والخوف، واليأس.
ويرى خبراء، أن هذه الحالة ليست استثنائية، بل هي جزء من نمط أوسع يتكرر في العديد من النزاعات حول العالم. فالجنود، بغض النظر عن الجبهة التي يقاتلون عليها، يحملون أعباء نفسية ثقيلة نتيجة المشاركة في العنف. وهذا العنف لا يدمر فقط المجتمعات التي يتوجه ضدها، بل يعود ليضرب في صميم من يمارسه، ويترك في نفوسهم جراحًا لا تندمل بسهولة.
من زوايا العالم
من زوايا العالم
من زوايا العالم